الوهم والوهن والتردد
د خلف المفتاح
في الحروب عبر التاريخ كان السلاح النفسي من أهم العناصر في الانتصار، ومع ذكرى تحرير القدس من الفرنجة سنة 1187على يد القائد صلاح الدين الأيوبي نستعيد مثل هذه العناصر أي عناصر القوة، ونتعرف على بعض عناصر الضعف، فقبل معركة حطين كانت معركة بناء وعي حقيقي قد سبقتها قادها نور الدين وحمود زنكي وقادة المنابر آنذاك، وتركزت على رفع همة أبناء الأمة وتحديد البوصلة، والهدف وهو تحرير القدس من الفرنجة المغتصبين، علماً أن نور الدين محمود قد توفي قبل تحرير القدس بحوالي عشرة أعوام، فهو لم يدخل القدس محررة، ولكن تلامذته وأتباعه ومن أعدهم هم من حررها، والمهم في هذه الحادثة التاريخية هو إسقاطاتها على ما جرى ويجري في غزة وجنوب لبنان، واغتيال الأمين السيد حسن نصر الله ومن سبقه من قادة.
ومع أن العرب والمسلمين كانوا منقسمين بين مؤيد للفرنجة ومعاد لهم، إلا أن حركة مواجهتهم على المستوى الشعبي كانت هي الأقوى، كما هو الحال راهناً مع الصهاينة في فلسطين. بمعنى أن بعض العرب والمسلمين قد طبع مع المحتلين الفرنجة، والبعض الآخر واجههم، ومع هذا الوضع اتبع الفرنجة أساليب إجرامية وارتكبوا مجازر في بلاد الشام وما حولها بهدف إدخال الرعب والوهم في نفوس الناس، كما يفعل الصهاينة اليوم في غزة والضفة ولبنان وغيرها، علماً أنه في حينها كانت أفضل السيوف هي الدمشقية ومع قوة السلاح وكثرة العدد عند العرب والمسلمين إلا أن الوهن والوهم أصاب الناس، ما مكن الفرنجة من احتلال أكثر مدن بلاد الشام بدون قتال عدا حالات فريدة .
وعلى العموم كان المشهد العام في المنطقة بغاية السوء والضعف والصراع، بل والتحالف مع الأعداء فخمد نفس المقاومة مقاومة المغتصبين المحتلين من الفرنجة عدة عقود إلى أن جاء قائد شجاع إسمه عماد الدين زنكي، وكان يمتلك عزيمة وشجاعة وكان شديد البأس وشجاعاً، وألهم أنه كان بعيداً عن الخليفة العباسي في بغداد المتهاون في مواجهة الفرنجة، فكانت أول انجازاته هو استعادة الرها التي كانت أول بلدة استولى عليها الفرنجة، وكان لاستعادتها من أثر بالغ، فقد ساهم نصر الرها في كسر حالة الوهم وكسرت الصورة النمطية عند العامة من الناس. من هنا بدأت حالة التعافي للأمة بأن الفرنجة يمكن هزيمتهم كما الصهاينة الآن بعد معركة طوفان الأقصى، وما يجري في جنوب لبنان فمعظم الهزائم التي حدثت في التاريخ سببها نفسي والقناعة الذاتية عند الناس أننا منهزمون أي الهزيمة الافتراضية النفسية كما هو عند البعض الآن ممن يروجون أنه لا يمكن هزيمة “إسرائيل” التي تحميها وتدعمها أمريكا والغرب، وتمتلك أحدث الأسلحة ويعملون على قتل إرادة العرب والمسلمين في مواجهة الغاصب المحتل. هذه الحالة الحليفة للعدو التي استمرت قبل معركة حطين لمدة تزيد على أربعة عقود هي من حمت وأمنت الفرنجة، وليس قوتهم وبأسهم إلى درجة أن أكثر من ثلاثة أرباع الجيوش الفرنجية قد عادت إلى بلادها الأوروبية لقناعتها بأن أبناء المنطقة لن يجرؤوا على مهاجمتهم واستعادة بيت المقدس .
فمع تحرير الرها وكسر الصورة، بدأت تدب في الناس روح جديدة وأمل جديد، ولما توفي نور الدين زنكي خلفه ولده محمود نور الدين زنكي، وكان يمثل فيما نشبهه الآن بجيل الصحوة، فأبوه صنع جيل العزة، أما هو فشكل جيل الصحوة والمقاومة والكرامة والثأر من العدو، والانتقام من أولئك المجرمين الذين دمروا كل شيء وارتكبوا المجازر بحق أبناء الأمة كما الصهاينة اليوم. وكان إثر ذلك أن توحدت الأمة بعد تشتتها.
إن ما يمكن استنتاجه من هذا الاستحضار التاريخي هو أن ذلك الانتصار الذي تحقق لم يأت هكذا، بل سبقته إخفاقات وويلات كثيرة، وكذلك أعقبته محاولات كثيرة لسرقة ذلك الانتصار التاريخي، ومحاولات استعادة بيت المقدس مرة أخرى من قبل الفرنجة، وقد افلحوا في ذلك ولكن سيطرتهم تلك لم تستمر طويلاً، حيث تم طردهم من كل بلاد العرب والمسلمين، ولم يعودوا إلا في مرحلة الاستعمار الحديث بعد تشرذم الأمة وتشظيها.
إن حالة القنوط واليأس التي قادتنا وسيطرت علينا في مراحل سابقة يجب تجاوزها إلى حالة الأمل والثقة بالنصر والتفاؤل ما دمنا أصحاب حق، ولا ننظر للحظة الراهنة على أنها لحظة النهاية فالحياة ليست كلها صعود نحو الانتصار، فثمة نجاحات وإخفاقات وهزائم عسكرية، ولكن المهم أن لا تهزم الإرادة وهذا ما يريده العدو أي الوهن والهزيمة النفسية، فالعدو لديه إمكانية هائلة للضخ من الدعاية الكاذبة والمغرضة وتشويه الحقائق وتعظيم نفسه وتسفيه وتصغير خصومه، وهذا كله يدخل في إطار الحرب الإعلامية والبروباغندا التي يستخدمها لهزيمة وإضعاف خصومه وتركيعهم .
إن الكيان الصهيوني هو دولة احتلال، ولا أحد يشك في ذلك، ولكن كل محتل أياً كان يبقى يعاني من أزمة وجود، والسؤال والتحدي أمامه ماذا يفعل جراء ذلك؟ وهنا تبدو القوة هي السبيل الوحيد لإثبات الوجود، فلا يكفي اعتراف ملك أو رئيس لدولة بذلك الوجود مع الرفض الشعبي لجسم غريب عن الأرض والتاريخ والثقافة، فثمة زرع غريب لا يمكن له أن يعيش ويستمر في تربة ليست تربته فلابد من اللجوء للقوة، وهذا هو حال كل المستعمرين عبر التاريخ، ولعل الصهاينة هم أكثر من استخدم هذا المفهوم حتى قبل قيام الكيان بعدة عقود، ولاسيما ما أشار إليه جابوتنسكي المنظر للصهيونية في كتابه “الجدار الحديدي”، وكذلك ما تبنته عصابات الهاغاناه مما سمي الخطة- د -ووقع عليها ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لـ “إسرائيل”، واعتبرت الخطة المؤسسة لذلك الكيان فهي تشير بدون مواربة وبنص واضح إن الهدف من وجودنا في هذه الأرض أن نتملكها بدون سكان، لذلك من الأفضل إخراج السكان غير اليهود إما بالقتل وإما بالنفي والترحيل، وهذا ما حصل في كل حروبهم مع الفلسطينيين والعرب، وحتى الآن في معركة غزة فخطة التطهير العرقي موجودة، ومتبناة قبل قيام الكيان، وكذلك التحول إلى قوة باطشة ومتغولة التي لا يضاهيها أحد، وهي خطة وضعت في عشرينات القرن الماضي أي منذ الانتداب البريطاني على فلسطين، فنحن أمام كيان مؤسس على القتل والعنف والتهويد والإلغاء قبل السابع من تشرين الأول 2023 فهذا هدف إسرائيلي ثابت مع فكرة قيامه .
إذن نحن أمام حالة صهيونية ليست طارئة أو وليدة اللحظة التاريخية، بل فكرة أصيلة ومؤسسة والذي حصل أن أجندتهم تلك قد خرجت علناً على قاعدة كشف المستور، وهذه قاعدة كل احتلال حدث في التاريخ لقناعته بعدم توفر شرعية الوجود، وهذا ما حصل من الاحتلال الفرنسي للجزائر والأميركي لفيتنام والصهيوني لفلسطين، ولكن القوة الباطشة والمفرطة تعاني من مشكلة أن الخوف منها مؤقت وليس نهائي، فقد يخاف الجيل الذي مورس عليه البطش، ولكن الأجيال اللاحقة ستتجاوز هذه الحالة فالقمع المستمر يولد جيل متمرد، فلا تستطيع قوة هزيمة إرادة شعب يدافع عن وجوده وكرامته وحريته، فربما صنعت القوة المفرطة حالة المقاومة كردة فعل عليها، وهذا ما هو حاصل في مواجهة الكيان الصهيوني.
إن الوحشية المخفية انفجرت هكذا دفعة واحدة عند أول تحد غير مسبوق لها ما جعل الكيان الصهيوني يظهرون حقيقتهم التي لم تعد خافية على أحد من العالم، فتعرى أمام الرأي العام العالمي ووضع على جدول أعمال المنظمات الحقوقية الدولية ومحاكمها بوصفه متهماً بارتكاب جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية ويلاحق قادته بوصفهم كذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية كي لا يفلتوا من العقاب.