ثقافةصحيفة البعث

“التّرجمة والمثاقفة” وتأثيرهما في الرّأي العام والأدب  

أمينة عباس ـ نجوى صليبه

جاء في رسالة المترجمين السّوريين التي قرأتها الأستاذة آلاء أبو زرار على مسامع الحاضرين في ندوة التّرجمة بدورتها العاشرة، أنّ التّرجمة فعل تمارسه الأمم منذ فجر التّاريخ لتقريب البعيد وفهم كلّ جديد وفتح مدارك وآفاقاً أكثر اتّساعاً في وعي الأمم، وأنّ حركة التّرجمة تعدّ أحد معايير تطوّر الأمّة ونهوضها فكريّاً وإنسانيّاً، وفي كلمته، قال المدير العام للهيئة الدّكتور نايف ياسين إنّ “موضوع العام “التّرجمة والمثاقفة” لا يخلو من الإشكالية وهي مستمدة في جزء منها من التّرجمة ذاتها، فكلمة مثاقفة ليست قديمة في اللغة العربية، لكن طرق المثاقفة التي نفهمها بمعنى التّأثّر والتّأثير والتّعلّم والتّعليم، طريق في اتّجاهين، إذا توافرت الطّاقة الإبداعية اللازمة ولا ينبغي بالتّأكيد أن ينحصر في تلقّي آداب وعلوم الآخر وتمثّل ثقافته من دون مساءلة”، في حين عرّف الدكتور باسل المسالمة مدير الترجمة في الهيئة مصطلح “المثاقفة” في حقلَي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية بالقول: “هو دراسة التّطورات النّاتجة عن اتّصال ثقافتين تتأثّر وتؤثّر إحداهما بالأخرى، وقد أصبحت المثاقفة مع الآخر أمراً حتمياً تفرضه طبيعة الحياة الحاضرة السّائرة نحو التّحاور والتّقارب بين الشّعوب والحضارات، ووسيلتها في ذلك التّرجمة، وقد ظهر هذا المصطلح سنة 1880 في حقل الأنثروبولوجيا، ويشير إلى الصّلات بين الحضارات المختلفة وإلى التّداخل بينها، وإذا افترضنا أنّ التّرجمة حوار ثقافي بين لغات العالم المختلفة فإنّ الدّور الأكثر أهميةً الذي تقوم به التّرجمة هو التّبادل الثّقافي بين سائر الشّعوب والثّقافات ونقل ما لدى الآخرين من علوم ومعارف وفنون وآداب وعادات وتقاليد، ويُعدّ التبادل الثقافي من علامات قوّة أيّ أمّة، فهي قادرة على المشاركة والتّفاعل مع الآخر المختلف، والاستفادة منه في تنمية الثّقافة وبناء الحضارة”.

وافتتح الدّكتور غسان السّيد النّدوة، التي أقامتها ـ على مدار يومين ـ الهيئة العامّة السّورية للكتاب بوزارة الثّقافة بالتّعاون مع المعهد العالي للتّرجمة بجامعة دمشق ومجمع اللغة العربية واتّحاد الكتّاب العرب، واتّحاد النّاشرين السّوريين، بالحديث عن “التّرجمة وتاريخ الأديان”، يقول: “نحن نسبح في عالم من الرّموز التي تنتمي إلى العبادات القديمة من دون أن نعرف خلفياتها، والتي فسّرها الباحثون الأجانب الذين كشفوا عن مراحل التّطوّر البشري وعلاقة الإنسان بالظّاهرة الدّينية”، لينتقل بعده الأستاذ حسام الدّين خضور إلى دور التّرجمة في المثاقفة من خلال اتّخاذ الأندلس أنموذجاً، وتحديداً مدرسة طليطلة للتّرجمة، وهي إحدى المؤسسات الثّقافية الأكثر أهمية في تاريخ العصور الوسطى، التي لعبت دوراً محوريّاً في نقل المعارف والعلوم من العالم العربي الإسلامي إلى أوروبا، وكانت مركزاً للتّرجمة متعددة الثّقافات، ومن المترجمين ذوي الشّهرة “جيراردو الكريموني” و”دومينغو غوديسالبو”، وتشير الأستاذة آلاء أبو زرار إلى أن “اللغة الإسبانية معبر لأيّ مقاربة يقوم بها الباحثون في المثاقفة اللغوية والتّاريخية بين الأندلس والوطن العربي، إذ استمررت اللغة الإسبانية في نقل ما استطاعت نقله من الإرث العلمي الذي تركته الحضارة العربيّة والإسلاميّة، كما لا تقتصر الكلمات المهاجرة من العربية إلى الإسبانية على الجانب الأدبيّ والدّينيّ، بل تطول جميع أوجه الحياة اليومية لدى الإسبان، وقد بان أثر المثاقفة العربية في التّرجمات الإسبانية وعلى الأدباء أنفسهم، ولعلّ أبرزهم الشّاعر والرّوائي الإسباني أنطونيو غالا الذي كتب “المخطوط القرمزي” عن سيرة آخر ملوك الأندلس، وأعمال أدبية مثل “الزعفران” للأديب الإسباني خوسيه مانويل غارسيا”.

حالات المثاقفة في التّرجمة الأدبيّة

“التّرجمة الأدبية.. رسول الثّقافة والوجدان” عنوان ورقة العمل التي قدّمها الأستاذ مهند محاسنه، وخلالها عرض الأبعاد المختلفة للتّرجمة الأدبية وتأثيرها العميق في تشكيل الوعي، يقول: “تسهم التّرجمة الأدبية بشكلٍ كبيرٍ في توسيع آفاق المتلقي الثّقافية، وتفتح أمامه أبواباً جديدة على عالم من الأفكار والمفاهيم، وهي نافذة تسمح للمتلقي بالتعرّف على طرق تفكير وتعبير متنوّعة، مأخوذة عن ثقافات وشعوب العالم، كذلك تؤدّي دوراً مهماً في فهم التّكوين النّفسي والعاطفي لشعوب أخرى، فالأدب المترجم يتيح للقارئ استيعاب تجارب شعوب أخرى مع المشاعر الإنسانية المتنوّعة، وهذا النّوع من الفهم يُسهم في بناء روابط إنسانية أعمق عبر الثقافات”، وعن مَواطن التّأثير والتّأثّر التي تقود إلى أسمى حالات المثاقفة في التّرجمة الأدبيّة بين العرب والغرب تبيّن الأستاذة ثراء الرّومي أثر ترجمة كتاب “ألف ليلة وليلة” والمعلّقات السّبع في بعض المبدعين المبرّزين في الغرب قائلة: “لعلّ خير أنموذج لمن خاضوا في سِفر حكايات ألف ليلة وليلة الرّوائيّ “غابرييل غارسيا ماركيز” الذي يقرّ بفخر في مذكّراته أنّ هذا الكتاب هو ما صنع منه الأديب الذي هو عليه، في حين وجد المستشرق البريطانيّ “آربري” تشابهاً كبيراً بين مسرحيّة “عطيل”لـ”شكسبير” وقصّة “قمر الزّمان ومعشوقته” والتقاطع الكبير بين مسرحيّة “تاجر البندقيّة” وقصّة “مسرور التّاجر وزين المواصف”.

ولأنّ التّرجمة إحدى أكثر وسائل المثاقفة أهميةً في المسرح، تحدّثنا الدّكتورة ميسون علي أستاذة المسرح المعاصر في المعهد العالي للفنون المسرحية: “لم يتقوقع المسرح العربي على نفسه، بل حاول في إطار المثاقفة وعبر حركة التّرجمة التّفاعل مع الثقافات الأخرى والنّهل منها، ولم ينقطع الحوار بينه وبين المسرح الغربي منذ نشأته لدى الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، لذلك أدرك الرّواد ضرورة الاستفادة من المسرح الأوربي، مع الوعي بأنّ نسخ المسرح الأوربي عقيم، لذلك لجأوا إلى استخدام وسائل عدّة لحلّ هذه الإشكالية، منها التّرجمة وتقديم هذه الأعمال، وبشكلٍ رئيس “شكسبير” و”موليير”، والقيام بتعريبها أحياناً، أمّا البداية الحقيقية لترجمة المسرح في بلادنا شكّل أول فعل مثاقفة كان بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) عندما بدأت تنشط حركة التّرجمة والمثاقفة، وكانت تحديداً عن الفرنسية والإنكليزية، أما التّرجمة عن اللغة الرّوسية فيمكن القول توثيقياً إنّنا لم نعرف عن المسرح الرّوسي نصوصاً عن اللغة الروسية، بل عرفناها من خلال اللغتين الفرنسية والإنكليزية، إذ كانتا القناتين الفعليتين لوصول المسرح الرّوسي إلى البلاد العربية، مع الإشارة إلى ضرورة تحديد معنى المثاقفة التي فتحت الباب أمام تطوّر المسرح العربي منذ بدايات القرن العشرين، حيث المثاقفة كما نراها يجب أن تقترن بوعي تاريخي بما يحصل اليوم، وأن تكون بحثاً إنسانياً لا يلغي التاريخ ولا المجتمع ولا الآخر بل يستفيد من وجود هذا الآخر للإغناء”.

التّرجمة وصناعة الرّأي العام

وفي أثر التّرجمةِ في صناعةِ الرّأي العام، تحدّثنا الدّكتورة أماني العيد: “للمترجمين دورٌ في اختيارِ مواضيع تُسهمُ في محاربةِ التمييز القائمِ على الجندر أو النّوع الاجتماعي، وتفعيلِ الرّأي والرّأي الآخر، وتقريبِ الحضارات والثّقافات، بدلاً من شيطنةِ الآخر المختلف، وتتسعُ وتتشعبُ موضوعاتها بتطوّرِ المجتمعاتِ وانفتاحها ورغبتها في التعرّف على هذا المكوّن الحضاري المختلف بغية خلقِ بيئةٍ ثقافيةٍ تفاعليةٍ متنوعةٍ تنظرُ إلى الآخر بعينِ الاكتشاف والاستكشاف والفضول وحُبّ المعرفة”.

ومن تجربتها الخاصّة، تحدّثنا الدّكتورة عبير حمّود عن تأثير التّرجمة في الرّأي العام، فتقول: “سأتوقّف سريعاً مع تجربتي في الكتب التي قمت بترجمتها، مثلاً كتاب “أمراض وسائل التّواصل الحديثة” من أجل مخاطبة الرّأي العام والتّأثير فيه، رأيت من الأفضل تغيير كلمة “Malades” التي تعني “مرضى” في الفرنسية إلى “أمراض”؛ لكي لا يستفز المتلقي من أنّ العنوان يتوجّه إليه بصفته مريضاً، أمّا كلمة “أمراض” فإنّها تحذّره من هذه الوسائل التي قد تصبح مرضاً يصيبه”.

وتُعدّ التّرجمة وسيلة فعّالة للتّواصل والتّفاهم بين الشّعوب، ومن خلالها تُنقل المعرفة والثّقافة من لغة إلى أخرى، تقول الأستاذة رهف الخطيب إنّ “اللغة هي الجسر المتين الذي يحتفظ بالتّراث الثّقافي وتنقله من جيل إلى آخر، واللغة والثقافة جزء لا يتجزأ تنشأ وترعرع في وقت واحد، وهذا ما تجسّده قوّة العلاقة بينهما وترابطهما المتين من خلال عملية التّرجمة التي يتمّ من خلالها نقل المعرفة والثّقافة من لغة إلى أخرى، ما يسهّل فهم واستيعاب اللغة الهدف وزيادة التفاعل بين الثقافات المختلفة”.

هيمنة اللغة الإنكليزية

لكن ما السّبب الذي جعل اللغة الإنكليزية هي المهيمنة في هذا المجال؟ وما تأثير هذه الهيمنة في المثاقفة؟، سؤالان يجيب عنهما الأستاذ محمد نجدة شهيد بالقول: “كان الاستعمار البريطاني أحد الأسباب الرّئيسة لهيمنة اللغة الإنكليزية في العالم، وحرصتْ على فرض ثقافتها، ثمّ جاء ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوّة سياسية كبرى في السّنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثّانية، ليعزّز هذه الهيمنة إلى يومنا هذا، حتى بعد أن نيل الدّول استقلالها في جميع أنحاء العالم، سعت بريطانيا إلى تصدير الثّقافة الإنكليزية عبر اللغة، عن طريق إنشاء رابطة دول “الكومنولث” عام 1931، وهي رابطة ثقافيّة سياسية بامتياز، تضمّ كلّ الدّول التي استعمرتها في الماضي، وقدمت، ضمن أمور أُخرى، عرضاً بإلغاء الدّين العام على هذه الدّول مقابل ضمان حكوماتها حماية اللغة الإنكليزية وتفوّقها، كما ساهمت العولمة في هيمنة اللغة الإنكليزية التي تُلغي الخصوصية اللغوية والهويّة الثّقافية والشّخصية الحضارية للأمم، وتروّج لأسطورة الثّقافة العالمية الواحدة ودمج سكّان العالم في مجتمع عالمي واحد، أو قرية صغيرة، وتسعى عن قصد أو من دون قصد إلى محاولة إلغاء خصوصيات الثّقافات، كذلك ساهمت أشهر الجامعات الأوربية والأمريكية مثل “أوكسفورد” و”كامبريدج” في تعزيز هيمنة اللغة الإنكليزية، واليوم نجد للغة الإنكليزية قوّة تؤثّر في شكل ومضمون الثّقافات والمجتمعات على نطاق عالمي، وتعزز الهيمنة الغربية وتهمَّش وجهات النّظر غير الغربية، ما أدّى إلى إمبريالية ثقافيّة مرتبطة بهيمنة اللغة الإنكليزية”.

وينوّه شهيد بأنّ هيمنة اللغة الإنكليزية تواجه تحديات حقيقية، ويقول: “لكنّها ليست كافية فيما يبدو للحدّ من سطوتها، من صعود قوى عالمية أخرى كالصّين، وتحدّث المزيد من سكان العالم اللغة الصينية أو الإسبانية، والابتكارات التكنولوجية التي تعمل على تقليص الحواجز اللغوية، والجهود المبذولة للحفاظ على اللغات الوطنية وتعزيزها، وأنّماط الدّيمغرافية المتغيّرة، وتكنولوجيا التّرجمة المحُوسبة، وانتشار اللغات الهجينة كما في الهند وغيرها، ويبدو أنّ هذه الهيمنة آمنة في الوقت الحالي، ولا تَظَهر أي علامات على تراجع هيمنتها أو استبدالها بلغة مشتركة أخرى في أي وقت قريب، فهي، مثلها مثل بعض اللغات الأُخرى، تتغير باستمرار وتتكيف مع الاحتياجات الجديدة في عالم تحكمه العولمة”.

ومع كلّ ما تقدّم، يبدو الأستاذ شهيد متفائلاً بزوال هذه الهيمنة، يقول: “في الأمد الأبعد، قد يحدث أي شيء، فالعالم يتغيرُ باستمرار، وقد تؤدي التّحديات التي تُواجه اللغة الإنكليزية، إلى زوال هذه الهيمنة بمرور الوقت، وإلى شروق مستقبل يشهد تعزيز التّعددية اللغوية بشكلٍ تصبح فيه اللغة الإنكليزية واحدة من لغات عدّة مهمة في أنحاء عالم يقوم على الاعتراف بحق الشّعوب في الحفاظ على ثراء تراثها اللغوي والثّقافي، وفي التّعايش في ضوء التّنوع والاختلاف والتّعددية والخصوصية الثّقافية.

ظروف صعبة وتحديّات كثيرة أمام اللغة العربية والترجمة والمثاقفة والهوية، وعلى ما يبدو لم ولن نعدّ لها العدّة كاملة، ففي كل عام نستعد كإعلاميين لتغطية ندوة التّرجمة السّنوية على أمل سماع كلام جديد أو مشاريع جديدة في هذا المجال، لكن للأسف كما كلّ عام أوراق عمل مكررة في معظمها، ذاك أنّ البعض لا يلتزم بالمحور المحدد له، وهذا أيضاً ما اشار إليه حام الدّين خضور في بداية ورقته، إذ يقول: “هذه الدّورة العاشرة لندوة التّرجمة، لكنّنا حتى الآن، وعلى الرّغم من تنوّع الموضوعات التي أسهمت في تسليط الضّوء عليها، لم نستطع أن نقدم أبحاثاً غنية أصيلة في المسائل التي عملنا عليها، وهي كثيرة ومهمة، والسّبب هو غياب البحث العلمي، وكما تعلمون، البحث العلمي مسألة في صميم عمل الدّولة والمؤسسات العلميّة، وطالما ظلّت الدّولة والمؤسسات العلمية مقصّرة عن خلق بيئة بحث وتغطية نفقاته، فستبقى أبحاثنا متواضعةً في قيمتها البحثية وغير أصيلة، وهي في معظمها أقرب إلى المقالة منها إلى البحث”.

خضور وفي ختام حديثه صرّح عن إطلاق اتّحاد الكتّاب العرب كتاب “التّرجمة في سورية”، وهو إلكتروني يُحدَّث دورياً بالتّعاون مع مكتبة الأسد الوطنية والمترجمين والمهتمين بالتّرجمة، مبيناً أنّ “الكتاب وبعد مقدّمة مكثفة عن التّرجمة وتاريخها ونظريّاتها ودراساتها، هو قاعدة بيانات لما ترجم من الفرنسية والرّوسية والإنكليزية والتّركية والفارسية، وسنضيف ما ترجم من اللغات الأخرى تباعاً، سنراه قريباً جدّاً على موقع الاتّحاد، آملين تفاعل المترجمين والمهتمين بالتّرجمة وإرسال ملاحظاتهم ومقترحاتهم إلى الاتّحاد ـ جمعية التّرجمة”.