فراشات الدم
غالية خوجة
ترتجف الغربة بين دم وريح، وتمضي التهاويل إلى التهاويل، هي الروح الوحيدة تقف خلفي وتنتظر بعضي، والجموع بين الرماد والشظايا تجد مخرجاً إلى الفراغ.
لم تعد الأرض تحتمل المزيد من الشظايا، وقريباً، ستغادر مدارها إلى جهة بلا جهة.
هكذا استنكرت الأرض ما يحدث، واستنكر الموتى، وفاضت الأشجار بالدماء، والموج صار أحمر قانياً، والشمس لم تعد بيضاء أو صفراء.
ارتعدت ذاتُ الصدع، وبدأت تستنكر ذاتُ الرجع، وهذا ما تحدّث عنه العلماء وهم يسجّلون صوت تهاويل زلزال سماوي، ولكنْ لماذا لا أحد يعتبر؟.
تعب سكان الأرض من الحروب، وتعبت الأرض والسماء، ولم تتعب القذائف المعادية من تفتيت أشلائنا وبيوتنا وآثارنا وحياتنا.
هل ما زالت هناك فسحة لالتقاء الأرواح بعيداً عن الشظايا؟.
تتكرّر الأسئلة، ويتردّد صداها دامياً مثل لعبة طفلة التفّت عليها بقايا يد صغيرة، مثل صوت طفل ما زال عالقاً في الفضاء وهو ينادي: أين أنت يا أبي؟.
لا الأب يجيب، ولا الابن، وحدها نيران القذائف الإسرائيلية والأمريكية تقصف النداء قائلة: كتبوا عليّ “إنّ الموت لكم أيها العرب المدافعون عن أوطانكم”.
الطفل ينادي، والبنت تنادي، والأصوات تتجمّع في المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وشوارع لبنان، وسماء سورية، فترتجف الأرض، وترتجّ الغيوم، ويهطل المطر أحمر، أخضر، أبيض، أسود.
المطر يهطل فتتبلّل الأرواح والقبور، وتستجمع الأجرام أحوالها، وتحزم الرياح أوجاعها، وتنتشر فراشات الدم في كل مكان، وتختبئ الكلمات في جذوع الأشجار، ويختبئ الأطفال من القذائف، وتحضن الفصول حكاياتها، ويتكرّر القصف إلى ما لا نهاية، وتتمنّى الكرة الأرضية لو تحضن نفسها وتختبئ في أقصى نقطة من الفضاء.
منذ أول الحروب الاحتلالية والأرض تحتجّ وتعترض وتشجب وتندّد، فتسمعها الطيور والغيوم والورود والأسماك والديناصورات والعصور ولا يسمعها الإنسان!.
ويحك أيها الإنسان، ألم يخلق الله لك أذنين وعينين ولساناً وعقلاً ومنطقاً وقلباً لتفكّر وتصلح أخلاقك وتعدّل ضميرك، وتبصر إلى أين أنت ماض؟.
هل الحرب ذكية أم غبية؟..
لا أقصد الذكاء التكنولوجي، بل أقصد هل يتمتّع المعتدون بذكاء يعكسونه على الحرب، أم أن القائمين بالحرب أغبياء، ولا يعرفون سوى تأجيج هوايتهم في إشعال الحروب وحصاد الأرواح، وتدمير الناس والمدن، ليشبعوا ضغائنهم التدميرية ثم يضحكون ضحكتهم الهيستيرية ليثبتوا أنهم موجودون؟.
لعلهم لم يسمعوا مقولة ديكارت مع التفكير، أو أنهم حرّفوها بما يناسبهم، فأطلقوا عليها غارة من غاراتهم السامة، وقرؤوها: “أنا أقتل وأذبح وأدمّر إذن أنا موجود”!.
ماذا لو أن ديكارت سمع وشاهد وعاش ما يفعله صانعو الحرب الأغبياء الأعداء؟ ماذا لو سقطت عليه قذيفة؟ أو انفجرت قنبلة مخبوءة في هاتفه المحمول؟! ترى ماذا كان سيفعل الخوارزمي لو عرف أن ما ابتكره للإنسانية صار ضد الإنسانية، ووظّفه الأغبياء في الذكاء التكنولوجي القاتل؟ وماذا كان سيقول نوبل مخترع النابالم، أم أنه كان متوقعاً أن يفعل بنو جنسه ببني جنسه ما حدث، ويحدث، وسيحدث؟ ترى، ماذا سيفعل الفلاسفة والشعراء لو عاشوا في زمننا هذا؟ هل كان سيصرّ لوركا على مسرحيته “عرس الدم” أم أنه سيجعلها بعنوان آخر، ربما قد يكون “فراشات الدم”؟.
الفراشات تطير وهي لا تعلم بأن دماءنا العربية صارت فراشات لا مرئية، لكنها كلما حطّت على وردة تركت أثرها الأرجواني عطراً، فعرف الزمان بأن شهيداً مرّ من هنا.