دراساتصحيفة البعث

مجزرة كفر قاسم.. شاهد على التاريخ الدموي الصهيوني

د. معن منيف سليمان

“كفر قاسم” في فلسطين المحتلة هي البلدة التي اختارتها العصابات الصهيونية في 29 تشرين الأول عام 1956 لسفك دماء عشرات الأبرياء، ضمن عشرات المجازر التي اقترفها الاحتلال وعصاباته على مدار سنِي إجرامه. وعلى الرغم من كونها إحدى المجازر الإسرائيلية الكثيرة فإنها اكتسبت بعداً خاصاً لتزامنها مع واقعة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

تقع بلدة كفر قاسم في الجزء الجنوبي من المثلث الصغير الذي سلّمته الأردن إلى الكيان الصهيوني في أعقاب اتفاقية الهدنة في رودس في نيسان 1949. بذلك انضمّ سكان تلك المنطقة (من كفر قاسم جنوباً حتى أم الفحم وقرى بناتها شمالاً) إلى الباقين في الجليل والنقب والمدن “المختلطة” الذين وصل عددهم إلى 160,000 نسمة تقريباً. ولم يكتفِ العدو الصهيوني بوضع المواطنين العرب تحت الحكم العسكري والتضييق عليهم بشتى الطرق، بل حاول مراراً وتكراراً دفعهم إلى ترك أراضيهم وبيوتهم والهجرة من وطنهم.

وظلّ بعض قادة العدو يخطّطون للتخلص من الفلسطينيين الباقين، أو بعضهم على الأقل، وينتظرون فرصة جولة جديدة من الحرب مع الدول العربية لتنفيذ ذلك. لذا، فإن هذه المذبحة التي حصلت سنة 1956 كانت مقصودة وتمّ التخطيط لها على أعلى المستويات لدبّ الرعب في سكان المثلث الجنوبي وتهجيرهم من وطنهم. لكن هذا الهدف لم يتحقق في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر ومذبحة كفر قاسم، إذ تمسّك الأهالي بأرضهم وبيوتهم ولم يتركوها على الرغم من الرعب الذي دبّ فيهم بعد المذبحة.

استغلت قوات الاحتلال الصهيوني المسمّاة “حرس الحدود” انشغال العالم بحرب السويس لتنفيذ هذه المجزرة البشعة، وعند تنفيذها طوقت قوات العدو البلدة من جهات ثلاث بينما أبقت الجهة الشرقية نحو الضفة الغربية مفتوحة، ما يعكس عزم الاحتلال على تهجير سكانها.

بدأت أحداث المجزرة عندما قرّرت قيادة جيش الاحتلال الصهيوني أن تفرض حظر التجول على عدد من القرى العربية الحدودية، وبناءً على ذلك استدعى قائد كتيبة حرس الحدود المقدم “يسخار شدمي” الرائد “شموئيل ملينكي” وأبلغه المهام الموكلة إلى وحدته والتعليمات المتعلقة بطريقة تنفيذها، مشدداً على ضرورة تطبيق قرار منع التجول لا باعتقال المخالفين، بل بقتلهم “قتيل واحد أو عدد من القتلى أفضل من الاعتقالات”، وقد تضمن قرار منع التجول الصادر عن القيادة الإسرائيلية زيادة عدد ساعات منع التجول لتبدأ من الساعة الخامسة مساءً، حيث كان يبدأ في السابق من الساعة التاسعة مساءً على الطرق ومن العاشرة مساءً داخل القرى ويستمر حتى الصباح، أما بالنسبة لمصير العائدين إلى القرى الذين لم يسمعوا عن زيادة ساعات منع التجول فكان على حدّ تعبير المجرم “شدمي”: “اللّه يرحمه”.

وقد وصلت الأوامر إلى عناصر السرية التي يقودها الملازم “غبريئيل دهان”، بإطلاق النار على الجميع دون تمييز بين نساء وأطفال أو رجال لأنه بتقديرهم “عمل مشروع”، فالقتل والإبادة الجماعية، حسب فتاوى حاخامات القتل والجريمة، فريضة دينية، وموقف شرعي لا غبار عليه، بل وواجب والتزام أخلاقي، وحق مطلق لا يخضع لأي قانون وضعي مهما كان مصدره وغايته، وما من شك أن لهذه الفتاوى تأثيرها على تطبيق العدالة عملياً ولاسيما لدى السلطات العسكرية، ذلك أن الجنود الصهاينة أقدموا على قتل العرب العزل في كفر قاسم وكان جزاء القتلة منهم إما إخلاء سبيلهم نهائياً وإما أحكام مخففة جداً أو عفو بعيد الأثر إلى حدّ تقليص العقوبة إلى الصفر.

وعلى كل حال، ومع اقتراب الساعة الخامسة كانت وحدات حرس الحدود منتشرة على مداخل القرية، حيث أوقفوا كل شخص عائد إلى القرية وتأكدوا من أنهم من سكان كفر قاسم وأمروهم بالاصطفاف على حافة الطريق وأطلقوا النار عليهم، ثم أخذوا ينتقلون إلى مكان آخر ويوقفون جماعة أخرى من العائدين فيطلقون النار عليهم جماعة تلو الأخرى حتى بلغ عدد ضحايا المجزرة تسعاً وأربعين ضحية من النساء والأطفال والرجال العزل، وقد جنّدت سلطات الاحتلال الصهيوني كل طاقاتها وأجهزتها لمنع انتشار خبر المجزرة التي ارتكبها جنودها، حيث عزلت القرية تماماً، ومنعت تداول خبر المجزرة بالصحف، ولكن مع مرور عدة أيام انكشفت الأمور واضطرت الحكومة الإسرائيلية برئاسة الإرهابي “ديفيد بن غوريون” إلى إصدار بيان في 11 تشرين الثاني 1956، أعلنت فيه: “إنه في ذلك التاريخ أعلن منع التجول للمحافظة على حياة الناس وأن عدداً من الناس الذين عادوا إلى بيوتهم بعد فرض منع التجول أصيبوا (!!) على يد حرس الحدود وعيّن رئيس الحكومة لجنة تحقيق لتستوضح ظروف الحادث”.

وكانت لجنة التحقيق قد أحالت أفراد حرس الحدود الذين نفذوا المجزرة إلى محاكمة عسكرية وامتنعت عن محاكمة “شدمي”، حيث صدرت الأحكام بحق الجنود فقط، فحكم عليهم بالسجن ما بين /15-17/ عاماً، ثم قدّم هؤلاء إلى محكمة الاستئناف العسكرية، حيث قرّرت تخفيف المحكومية فوصلت إلى حدّ إلغاء نصف مدة السجن، ثم أحيل هؤلاء المجرمون إلى لجنة إطلاق السراح التابعة لجهاز السجون، فقامت بتخفيض ثلث مدة السجن التي حكم بها عليهم، وفي عام 1960، أطلق سراح آخر مرتكبي المجزرة.

أما “شدمي” الذي لم تحله النيابة إلى المحكمة، فقد اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى إحالته إلى محكمة عسكرية بضغط حملة الانتقاد والمطالبة بمحاكمته، حيث حكم عليه بالبراءة بذريعة أنه أسيء فهم أوامره، وأدين بخرق صلاحياته في زيادة ساعات منع التجول، وكانت عقوبته التوبيخ ودفع غرامة مالية مقدارها قرش إسرائيلي واحد “أغورة”، وهذه الأحكام تظهر مدى الاستهتار بكل القيم الإنسانية وبالدماء البريئة التي أريقت بدم بارد، ولم تتطرق المحكمة إلى السياسة الرسمية التي أدّت إلى هذه المجزرة.

إن العفو الذي منح للمتهمين باقتراف مجزرة كفر قاسم، والقرش الواحد الذي غرّم به “شدمي” هو ككل الأحكام الهزيلة المستهترة التي أدين بها أعضاء التنظيمات السرية بتهمة القتل المتعمد، فهي تشير إلى وجود نهج متواصل ضد العرب هدفه تهجيرهم وطردهم من بلادهم، وتدلّ كل هذه الفضائح على أن السياسة المجرمة تجاه العرب صالحة ما دامت تنفذ بسرية، فإذا انكشفت، فلا بأس من تجميلها بأحكام قضائية، تسفه دماء الضحايا، وتشجع القتلى على ارتكاب جرائم أخرى.

صارت ذكرى مذبحة كفر قاسم من أبرز معالم الهوية الجمعية والقومية للفلسطينيين. فهي رمز للصمود والبقاء على الرغم من سياسة الترهيب في الخمسينيات من القرن العشرين، وقد أقام أهالي كفر قاسم في العقود الأخيرة متحفاً لتجذير مكانة المذبحة في الذاكرة الفلسطينية، كما عملوا على إحياء هذا الحدث بالمشاركة مع ناشطين وقيادات سياسية.

ومهما يكن، لم ينجح الكيان في اقتلاع كل الفلسطينيين من أرضهم، وعلى الرغم من محاولاته الدؤوبة حتى اليوم، لإحداث نكبة جديدة في فلسطين، إلا أنه يخفق، ليس لعدم قدرته فقط، إنما لأن الشعب الذي تهجر سنة 1948، ويذوق الذل في أرضه تحت الاحتلال، وفي بلدان الشتات، ليس أمامه حلّ سوى طرد المحتلين، والعودة إلى الديار، وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريفة.