الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أحبها.. لينال رضاها!

حسن حميد 

كثيرون أحبوها، وهاموا بها، وكلما ابتعدوا عنها، قسراً أو طواعية، اشتاقوا إليها، لا لتجديد حبهم لها، وإنما ليروا جمال الصباحات الشارقة نوراً رويداً رويداً مع صياح الديكة وزقزقة العصافير وتهاطل الندى المضيء لتبدو الخضرة الجميلة، والبراعم الجميلة، وصحوة العشب الجميل الذي بدأ النهار بالرقص السري الذي لا تراه سوى العيون التي عرفت نعمة الإبصار العميقة.
كثيرون أحبوها، ولكن ليس بهذه النعمة من الشوق والإحساس والابتهال والرضا من دون وسوسة أو شغب أو عتاب..
لقد أحبها، وهو في حضرتها، يرنو إلى صورتها، ويجالس حدائقها، ورخام مقاعدها، ويقرأ في تاريخ ابن عساكر ما يسرّ به الخاطر والقلب، وما يوقد قنديل الحياة بالمسرات، وما يبهج الروح بالانتماء الأزلي، والزهو الأبدي، ومغادرة كل دارات الضعف واليأس والانحناء.
إنه أديب فلسطين المسوّر بجنون الإبداع، إبداع البساطة، وإبداع المعنى، وتوليد الكلام الرضي من الحجارة، والحواري، والأزقة، وحنفيات الماء، الماء السبيل الحارس لكل الزوايا، المتوّج بالبسملة والسلام والرحمة والأدعية الماضيات في الصعود حتى لتصير الغيوم سلالم من تعب لا تعرف الشكوى أو الوهن، إنه رشاد أبو شاور، السارد الفخيم الذي عاش دمشق حباً لم يعرف العتمة أو الظنة أو الإخافة لحظة واحدة.
رشاد أبو شاور الذي أحبّ كل من أحب دمشق، وعشق كل من عشق تاريخها، وأمكنتها، وأهلها، ودورها، وشوارعها، وعمارتها، وكتبها، وأعلامها الأفذاذ الذين امتلكوا مفاتيح أسرار الدنيا في ليلها ونهارها، وكره كل من أدار ظهره لها، أو عبس في وجهها، أو قفز عن بهجة من بهجاتها حتى لو كانت طيوف روائح قهوة هابطة، مثل مطر كريم، من شرفة عالية.
رشاد أبو شاور صاحب رواية وجع المخيمات الفلسطينية (العشاق)، ورواية نابلس (شبابيك زينب)، وسيرة الخروج من بيروت (الرب لم يسترح في اليوم السابع)، ومتاهة (الغريب في المدينة)، ونعمة (بيت أخضر ذو سقف قرميدي)، رشاد أبو شاور الذي رحل مؤخراً، وهو يتحدث عن شوقه لرؤية دمشق مرة أخيرة، وأن يحتسي فنجان قهوة أخير في مقهى النوفرة، وهو يجول بنظره إلى شجر النارنج والكباد المنار بثمره القمري، وأن يمشي على مهل مثل الغيوم في منطقة العمارة، وباب توما، والميدان، والشاغور، و أن يمضي إلى علوة من علوات قاسيون الآبدة، وأن يعيد قراءة الصفحة الأخيرة من كتاب ابن عربي الذي هام حباً بدمشق، في حديقة الجاحظ الجد، وأن يقول قولته السائلة: أبعد هذا الجمال، يارب، من جمال!
رشاد أبو شاور الذي نشر قصصه القصيرة، في صحف دمشق ومجلاتها، مجاورة لقصص سعيد حورانية، وبديع حقي، وفارس زرزور، وكوليت خوري، وألفة الإدلبي، وغادة السمان، ونصر الدين البحرة، وياسين رفاعية، وهو ابن ثماني عشرة سنة، طالباً في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، فيقبض مكافأة النشر التي تمكنه من شراء سندويشة وكأس شاي، وكتاب من فوق الرصيف، ورشاد أبو شاور الذي انتسب لاتحاد الكتاب العرب في سورية، وهو ابن عشرين سنة، ليجلس مناقشاً أمور الثقافة وأدوارها إلى جانب الكبار: أنطون مقدسي، وحافظ الجمالي، وكوليت خوري، وقمر كيلاني، وعلي الجندي، وفاتح المدرس، وممدوح عدوان، وصميم الشريف، وصلاح دهني، وسعيد حورانية، وحنا مينة، و د.نجاح العطار.. وهو لم يزل في عتبات الشباب الأولى، ورشاد أبو شاور الذي غدا، مع رفاقه أدباء فلسطين، أحد المؤسسين لأدب المقاومة، وأحد الأصوات المدوية في الحضور والإبداع حيثما حلّ في دمشق، وعمان، وبيروت، والقاهرة، وبغداد.
رشاد أبو شاور، وخلال السنوات العشر الماضيات، أعني عشرية الدم والصبر والانتصار، بكى وأبكى، وهو يكتب بحبره المضيء عن صمود أهل سورية في وجه العتمة الجاهلية التي اجتاحت أراضيها من كل المنافذ والمعابر، لقد بكى المدارس التي دمرت، ودور العبادة التي هجرت، والمشافي التي غصّت بالجروح والأنات، والحقول والمعامل التي أقفرت، والجامعات التي استشهد طلبتا، بكى الطمأنينة والأمان، ودعوات الأمهات الراجيات أن يعود أبناؤهن بالسلامة، والنجاة من تغوّل الحرب الكريهة، وصولة الباطل.
رشاد أبو شاور الذي تخطته شرور أهل الباطل مرات، فنجا من الموت والاغتيال مرات لأنه أحب سورية، لأنها كانت له الأم الحانية، والعافية الأدبية، لقد قرأ في مدارسها حتى حاز الشهادات، وعاش بين أهلها وفي حاراتها حتى عرف دروب المحبة فمشاها، ورشاد أبو شاور، حين كتب عن العشرية الدموية، التي مخرت الحياة السورية كتب كتابه الطويل النايف عن الأسى والحزن والفقد وبطولات الصبر والشجاعة السورية، فكانت كتابته في مجملها.. كتاب الوطنية السورية، وكتاب التاريخ والجغرافية والقيم النبيلة والجسارة التي تستبطن مكامن القوة في الذات السورية، رشاد أبو شاور، الذي رحل مؤخراً، وعبر كتابه الأخير، كان نداً لابن عربي في عشقه للشام، بلاد الكرامة والحضارة والنضارة والفنون والآداب.

Hasanhamid55@yahoo.com