تدوير أفكار
عبد الكريم الناعم
قال وعلى وجهه غمامة حرَج، وبصوت خفيض قليلاً: يا صديقي، أعلم أنّني قد أسبّب لك بعض المتاعب النفسيّة، من خلال ما أصارحك به، وليس لي خيار في ذلك، إمّا أن أظلّ كما كنتُ معك، أو أبتعد عنك،
نظر إليه نظرة مشحونة بالعتاب والاحتجاج وقال له: هل سمعتني أشكو منك، أو نقل أحد لك أنّي تذمّرت، أو تضايقت؛ قد نختلف في جزئيات صغيرة، ونتطابق في المآلات الكبيرة، وأنا لا أريد حتى أن أتصور أن تغيب عني، وأنت قادر على المجيء.
انفردت أساريره وقال: كيف ترى الأمور، لا سيّما بعد فوز ترامب؟!!.
أجابه: تحضرني حكاية رويت عن المناضل والمفكّر الكبير المرحوم، زكي الأرسوزي، فقد مرّ بحمص، وكان زمنُ مروره بين ذهاب عهد لا يُذكَر بخير، وعهد لا يُبشّر بخير، وكان في مقهى الروضة الحمصي الشهير “بويجي” يهتمّ بالسياسة، ومعظم سياسيي حمص كانوا يجلسون في هذا المقهى أيّامذاك، واغتنم فرصة أنه يلمّع حذاء الأرسوزي المعروف. فسأله: أستاذ.. برأيك مَن الأفضل بين من ذهب، ومّن جاء، فقال له: يا أبا فهد، أنت بلا مؤاخذة ماسح أحذية، ولا انتقص من قيمتك لا سمح الله، فالعمل شرف، هل يفرق معك أن أعطيك الرجل اليمنى قبل اليسرى لتمسحها؟ فأجابه: لا.. الاثنان مثل بعضهما. فقال الأرسوزي: ها قد نطقت بالجواب!! وهذا حالنا يا صديقي مع مَن ذهب، ومَن سيخلفه، الويلات المتحدّة وحكام الأطلسي المتصهينون هم أشدّ سواداً من كلّ ما قرأناه في التاريخ عن توحّش الغزاة، فالذي يجري في غزة وجنوب لبنان، بل وعلى مساحات واسعة من لبنان، لم يُعرف له شبيه، ويجري تحت سمع وبصر العالم كلّه؛ ورغم ذلك، فليس لدى هؤلاء الحكام ذرّة من ضمير، وبعض شرائح شعوبهم أشرف منهم بكثير، وخروج المظاهرات في بعض عواصمهم خير دليل. إنّ هؤلاء الحكام يعلنون، بالممارسة، أن لا قاع للسقوط الأخلاقي الذي وصلوا إليه، وليس في صدورهم ما يُسمى شعور إنساني، وهذا لا يفعله إلاّ مَن باع نفسه للشيطان الصهيوني، اشتروهم بالمال، والمنصب، والجنس، ولا بدّ لهذا التفسّخ الأخلاقي من أن يؤدّي في النهاية إلى تحلّل تلك الجثة.. متى؟ .. يصعب أن نعرف، وذلك لأنّ أعمارنا قصيرة وأعمار الدول أطول.
قاطعه: حين أنظر إلى الفارق، بين قوة الأعداء وقوّتنا، أجده يكاد يوصلني إلى ما يشبه اليأس، ولا أقول اليأس.
أجابه: ومن هذه النقطة ينبثق شرف هذه المقاومة، وقيمتها الجوهريّة والتاريخية، وهنا أرى ضرورياً أن نسأل: هل هذا العدو كان نائماً، أو ساكتاً عن ملاحقتنا؟!! انظر كل المعاهدات التي وقّعها مَن ظنوا أنهم بمنجاة، أو أوهموا شعوبهم أنّهم كانوا على درجة عالية من الوعي والعقلانيّة، فجنّبوا بلادهم ويلات العدو، ما الذي جنوه غير الذلّ، وأنّهم لا يملكون من أمورهم إلاّ ما ملّكهم أعداؤهم، تمهيداً لمرحلة قادمة؟
قاطعه: أصبح نومي كوابيس فوق كوابيس، أتابع الإبادة في غزّة، أناس يموتون إمّا قصفاً، أو جوعاً، والتدمير في لبنان، فلا تتلقّاني إلاّ المخاوف.
أجابه: أحترم هذه الحساسية النّبيلة، وفي الوقت ذاته أطلب ألاّ تنسى أنّ هذا العدو، لأوّل مرّة في تاريخه، يخوض حرباً تجاوز زمنها السنة، وثمّة مستوطنات هجرها أصحابها، وثمّة صواريخ للمقاومة تصل إلى بيوتهم التي اغتصبوها، وثمّة مَن يهاجر، وثمّة من يتظاهر ضد نتن ياهو، وثمّة قواعد عسكرية، ومعامل سلاح تطالها الإصابات، وما يصلنا إلاّ القليل القليل، وهذا كلّه يحمل في طيّاته ما يُراهن عليه المقاتلون الشجعان، وعليهم بعد الله المعوَّل..
aaalnaem@gmail.com