الصداقات الصافية كنوز الخافية
غالية خوجة
بعيداً، في أعماق كلّ منّا بيئة طبيعية نقية، تصغي معنا لدواخلنا، وتنادينا إلى التأمّل والتفكّر، خصوصاً، كلما كنّا مضغوطين، فنصغي لزقزقتها وشمسها وهي تصعد رويداً من كهوفنا الداخلية لترتفع فوق المياه والينابيع والأنهار والذرا البيضاء والخضراء الملونة بورود لا تذبل، وعطور ليست أرضية، ورائحة تشبه رائحة أمهاتنا وآبائنا وهي تعطّرنا وكأنها قادمة من الجنّة.
وكلما استغورنا بصفاء نفسي مع ذاتنا والآخر والعالم تلألأت أحوالنا ومنحتْنا طبيعة أشدّ صفاء، فترتاح النبضات، وترنّ القلوب في المياه الشفافة، وترفرف تحولاتنا وهي تشذّب منا تلك الشوائب الروحية والجسدية والأرضية.
قريباً، من تلك العوالم، يلاحظ الإنسان بأن الأرواح تأتلف، فتتصادق بمحبة واحترام دون هدف دنيوي، أو غاية ذاتية، أو مصلحة خاصة، هنالك، تشعّ الإنسانية بصفائها كما المياه المشعة فوق الجبال، فنسمع لغتَها المختلفة وهي تنساب شلاّلات من الأضواء، راسمةً وجوهَ من مرّوا ويمرون وسيمرّون بحياتنا، فنطمئنّ للحياة أكثر لأنها لا ولن تخلو من تلك الأرواح النقية التي لا تغيّرها الأزمنة والأمكنة، بل تجعلها أكثر مودة، وتشابكاً، وتناغُماً، وتشدّك إليها كما تشدّ البحار موجاتها، وتبدأ المعزوفات بريقَها، فتزداد روحك تألقاً وتكبر مع الأصدقاء المتواجدين في كل مكان، وتكبر بهم، كما يكبرون معك وبك.
لكل منا صداقاته الوفية العاكسة لروحه، لذلك، كلما امتزجت أرواحنا مع نقاء الكينونة اتسعت دائرة صداقاتنا القريبة والبعيدة، ومنها الأصدقاء الواقعيون، وأيضاً، الأصدقاء المعنويون مثل الشخصيات العلمية والمعرفية والثقافية والأدبية والفكرية والفلسفية عبْر التاريخ، والأصدقاء الرمزيون مثل شخصيات الأعمال الإبداعية بما تحمله من أضواء حفرتْ تكويناتها في دواخلنا، ومنها شخصيات بعض الأعمال المؤثرة من شعر ورواية وأسطورة وملحمة وقصة ولوحة وموسيقا وخرافة وتراث.
بعيداً، أو قريباً، هناك في الأعماق أو الخافية أو اللا وعي، تنتفي مسافات البُعد والقُرب، وتنبتُ الأشعة كوناً جديداً، فنحلّق بين جبالها وسهولها وبراريها وحقولها، نحلّق مع أنفسنا، لنكتشفها أكثر، ونكتشف ما راكمَهُ وعيُنا الحياتي في حواسنا وحدسنا وبصيرتنا، مما يجعلنا ننتقد أنفسنا أكثر لنكون على أهبة الإنسانية دائماً.
وبكل يقين، تنمو تلك الصداقات وتزهر أكثر كلما تمتّع أحدُنا بقبول الآخر كما هو، لأننا أنفسنا في دائرة التحوّل أيضاً، فلكل منّا مزاجه المتغيّر، وظروفه، وحالاته الطبيعية والاستثنائية، وهذا ما يقدّره الأصدقاء مع بعضهم، ويتعاونون معاً على البِرّ والأثَرة والصبر والفرح، ويبتكرون لحظاتهم معاً.
لا تهتم الصداقة بالأرقام والأعداد بقدر اهتمامها بمحور الصفاء الداخلي المشترك واستمراريته وديمومته، فكم من أناس قابلناهم مرة واحدة في حياتنا، لكنهم انضموا إلى مفهوم الصداقة، وكم من أناس قابلناهم كثيراً، وتبادلنا معهم الأفكار والهموم والأفراح، لكنهم، في لحظة مباغتة، خلعوا أقنعتهم، وانطبقت عليهم، للأسف، مقولة : “احذر عدوك مرة وصديقك ألف مرة”، لذا، الصداقة التي تزول في لحظة لم تكن صداقة ولا للحظة، وهذا ينطبق على كافة أشكال العلاقات الإنسانية.
ومن نافلة القول التأكيد على “صديقي من صدَقني وصدّقني”، وكان معي على الهموم والظروف والزمان، ويعينني على الحياة، على عكس ذاك الإنسان الذي يعين الظروف السلبية عليّ، أو ذاك الذي لا يقدّم الخير ولا يقف على الحياد، لأنه يريد أن يضيف إيذاءه على الظروف المؤذية.
فما أجملنا عندما نعين ونستعين بالصداقة، فنبتسم للظروف المعاكسة موقنين بأنها مؤقتة، لأن دوام الحال من المحال، لكنّ دوام الإنسانية في العلاقات هو الشعاع الذي لا يعرف الزوال.
دمتم قراءنا الأعزاء بصداقة عفوية محبّبة لا يؤثر فيها المغرضون والحاقدون والمفرّقون، ولا تلتفت إلاّ لأشعة الأعماق لتصوغ جمالها الداخلي والخارجي مانحة البيئة صفاء آخر للماء الذي جعل الله منه كل شيء حي.