الدمج أطاح بالقطاع الإنشائي!!
علي عبود
نستغرب استمرار مناقشة “الدمج” على مستويات مختلفة، دون أن يبرهن دعاته عن نجاح أيّ تجربة منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي.
وإذا كان دمج بعض الوزارات يُمكن الرجوع عنه بعد سنوات من التطبيق الفاشل، فإن الأمر مختلف بالنسبة للشركات الإنتاجية، فالخسائر الناجمة عن دمج شركتين أو أكثر نهائية، ولا يمكن تعويضها، والرجوع عن الدمج مستحيل خلافاً لما حدث في تجارب دمج الوزارات.
لسنا هنا في وارد تقييم تجارب “الدمج” التي نُفذت مؤخراً، أو التي يجري مناقشتها حالياً، كمقترح دمج المؤسّسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي والشركة العامة للصرف الصحي على مستوى المحافظات، وإنما سنسلّط الضوء على تجارب الدمج التي أطاحت بقوة القطاع الإنشائي الحكومي.
يزعم دعاة “الدمج” دائماً بأنه وصفة ناجحة لإعادة تفعيل عملها بكفاءة، وضبط النفقات وترشيد الإدارة وتحسين الجودة، وتخفيض التكاليف والحدّ من الهدر والفساد.. إلخ، وإذا كانت هذه المزاعم صحيحة فلماذا فشلت كلّ تجارب “الدمج” السابقة والإصرار على المزيد من “الدمج”؟
كانت التجربة الأولى للدمج في القطاع العام الإنشائي، وباستثناء إضعاف الشركات الإنشائية العامة لصالح المقاولين في القطاع الخاص العربي والأجنبي لم يوجد سبب واحد لتطبيق “الدمج” في قطاع رابح دائماً من جهة، وبنى سورية الحديثة كما عرفناها قبل عام 2011 من جهة أخرى!
والحق يُقال، إن محاولات “تقزيم” القطاع الإنشائي بدأت باكراً قبل وصفة “الدمج” الحديثة.. بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أيّ بعد نجاح الشركات الإنشائية بتنفيذ مشاريع الري والسدود واستصلاح الأراضي التي حوّلت سورية من مستورد إلى مصدر للقمح وإلى الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية، وخاصة الأساسية منها.
كانت البداية بتعطيل تنفيذ القانون السابق رقم 1 لعام 1976 الذي منح القطاع الإنشائي المرونة والاستقلال المالي والإداري، فأصدر رئيس الحكومة آنذاك عدة قرارات وتعاميم وبلاغات ليعمل بموجبها هذا القطاع، وكانت كلها مخالفة لأحكام القانون النافذ نظرياً!
بعدها أصدر رئيس الحكومة السابق قراراً بتطبيق قانون العاملين الأساسي على الشركات الإنشائية في نهاية الثمانينيات، والذي حرم المهندسين والفنيين والعمال المهرة من الرواتب والحوافز والمكافآت والتعويضات التي تتناسب مع طبيعة عملهم التي لا تخضع لدوام محدّد، وكانت بمثابة ضربة قاضية فرّغت القطاع الإنشائي من الخبرات والتخصّصات العالية التي هاجر معظمها خارج البلاد أو استقال وأسّس شركات إنشائية خاصة نفذت عدة مشاريع ناجحة للدولة!!
وتبع كلّ ذلك رفض مستمر لتحديث آليات القطاع الإنشائي، والتي هي أساس نجاح أي شركة بتنفيذ مشاريعها بالجودة العالية والمدة الزمنية المحدّدة، وبأقل التكاليف.. إلخ. وما لفتنا وأثار استغرابنا آنذاك قيام وزير في حكومة الثمانينيات بمهاجمة مديري الشركات الإنشائية، وانتقادهم بشدة، وكأنهم غير معيّنين بقرارات من رئيس الحكومة، لنكتشف لاحقاً أن هناك خطة لدى تلك الحكومة استكملتها حكومة التسعينيات، فحكومة العقد الأول من هذا القرن، وهدفها الإطاحة بقوة القطاع الإنشائي، أي الذراع التي يُفترض أن تكون فولاذية للدولة لصالح شركات المقاولات الخاصة.
الخلاصة.. أدى “الدمج” إلى تخفيض عدد الشركات الإنشائية من 17 شركة يشرف على عملها وزارة متخصّصة ومجلس أعلى للشركات إلى بضع شركات تتبع لعدة وزارات بإمكانيات محدودة، وتعجز عن تنفيذ مشاريع متواضعة لا تقارن بمشاريع القطاع الإنشائي الذي بنى سورية الحديثة كما عرفناها قبل عام 2011!!