دراساتصحيفة البعث

سياسة الصين الخارجية.. حركات تنين متناسقة

علي اليوسف

تشكل العقيدة الكونفوشية مرتكزاً رئيساً للفكر الصيني ومحدداً مهماً للهوية الصينية، وعلى أساس عدد من مبادئ تلك العقيدة تقوم السياسة الخارجية الصينية، حيث تؤدي اعتبارات الأيديولوجيا وتحقيق المصالح دوراً رئيسياً في تحديد سياستها الخارجية التي توصف عموماً بالبراغماتية. يؤمن الصينيون بأن جميع المذاهب الفكرية والسياسية التي دخلت الصين على مر العصور ذابت في إطار الفكر الصيني، وشكلت رؤى جديدة صينية النكهة. يأتي ذلك منسجماً مع المثل الصيني “البحر يغيّر طعم ألف نهر”.

تحث العقيدة الكونفوشية على التآخي والسلام وفعل الخير الأمر الذي يفسر سيادة طابع التعامل بالقوة الناعمة بدلاً من الصلبة في سياسة الصين الخارجية عموماً. لذلك تعتمد الصين في سياستها الخارجية على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، التي أقرّها الحزب الشيوعي الصيني منذ نشأة جمهورية الصين الشعبية عام 1949، والتي تتقاطع تقاطعاً تاماً مع تلك المبادئ الكونفوشية. وتتمثل تلك المبادئ في: الاحترام المتبادل للسيادة، وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء والتدخل في شؤون الغير، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.

لقد عكست المعاناة التي عاشتها الصين بسبب التدخل الاستعماري منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى ظهور جمهورية الصين الشعبية، نظرة صينية سلبية إزاء تدخلات الأجانب، وبقي ذلك محدداً رئيساً من المحددات التي تحكم سياستها الخارجية. ثم لاحقاً شكلت الحروب الاستعمارية أول اتصال للصينيين مع العالم الغربي، تبعت بحرب الأفيون الأولى ومقايضة البريطانيين الأفيون بالفضة الصينية، التي انتهت بمعاهدة تفرض على الصين دفع تعويضات وفتح الأسواق وإقامة مستعمرات للبريطانيين. كما جسد الاحتلال الياباني للصين وما لحقه من تنكيل بالشعب الصيني عام 1894 صفحة من صفحات المعاناة الصينية من التدخل الأجنبي. لذلك يصعب على الصينيين إغفال التأثير السلبي للعقوبات التي فُرضت على بلادهم بقيادة الولايات المتحدة لسنوات طويلة خلال فترة الحرب الباردة كأحد فصول المعاناة التي لحقت بالشعب الصيني.

ونتيجة لكل تلك الظروف غدت المرونة السياسية أهم محرك للسياسة الخارجية لتحقيق المصالح، حتى باتت ركيزة من ركائز الفكر السياسي الصيني. هذه الركيزة ظهرت في العديد من الروايات الصينية التقليدية، فقد شبَّه لاو تزي، الفيلسوف الصيني ومؤسس الديانة الطاوية في كتابه التاو، المرونة السياسية بحركة التنين المتناسقة. ويرى العديد من المحللين أنَّ جذور البراغماتية السياسية جاءت من الصين، ويطلق مصطلح الدولة البراغماتية على الدولة التي تنتهج سياسة خارجية تضع المصلحة الوطنية أساساً لعملها، دون التزام بتوجه أو سلوك معين، ودون الاعتبار لمبادئ أو مثل محددة كحقوق الإنسان أو مصلحة الدول الأخرى. ورغم ذلك التناقض بين مبادئ الدعوة للتآخي والسلام وفعل الخير وبين البراغماتية السياسية استطاعت الصين الموازنة بينها في سياستها الخارجية في تناغم غريب عكس الطبيعة المميزة للهوية الصينية. وهي، أي السياسة الخارجية الصينية تعتمد إستراتيجية التغيير بهدف تحقيق مصالحها دون وضع اعتبار لتحالف معين أو مبدأ محدد، الأمر الذي يسمح لها بتبديل تحالفاتها بسهولة، وبمعارضة السلوك السياسي لدولة معينة من جهة، وبإقامة علاقات اقتصادية معها من جهة أخرى.

ويظهر تتبع مسار الاستراتيجية المتغيرة للسياسة الخارجية الصينية، أنها بعد نشأتها انتقلت في سياستها الخارجية من الاعتماد على الاتحاد السوفييتي السابق كشريك استراتيجي، إلى الاعتماد على النفس من أجل إعادة البناء ومتطلبات النهضة، وذلك خلال عهد الثورة الثقافية في إطار عهد من العزلة التامّة عن المجتمع الدولي. وبعد عام 1975 انتقلت السياسة الخارجية الصينية من استراتيجية العزلة إلى الانفتاح على دول العالم خصوصاً النفطية منها، بعد توجهها نحو التطور الاقتصادي والتصنيع. وبعد انتهاء الحرب الباردة باتت الصين تبحث عن دور ونفوذ سياسي، ينسجم مع مكانتها الاقتصادية التي نجحت في تحقيقها. وبعد دخول الألفية الجديدة اعتمدت الصين سياسة تتناسب مع مكانتها الدولية الجديدة، بعد أن باتت أحد الأقطاب العالمية على خريطة السياسة الدولية، فانخرطت في القضايا الدولية، وقاومت هيمنة القطب الواحد، ودافعت بقوة عن سيادتها.