دراساتصحيفة البعث

سياسة الهدم والتهجير ليست وليدة “طوفان الأقصى”

د. معن منيف سليمان

لم تكن فكرة تهجير الفلسطينيين من وطنهم الأصلي “فلسطين” وليدة العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023، فعلى مرّ التاريخ، حتى قبل ظهور كيان الاحتلال وحصوله على اعتراف دولي، تجلّت فكرة تهجير ساكني فلسطين الأصليين في العديد من الدراسات والمقترحات الأمريكية والصهيونية.

في البداية كانت تلك المقترحات مجرد أفكار، وبمرور الوقت، ومع ظهور كيان الاحتلال، تمّ عرض فكرة تهجير الفلسطينيين إلى أراضٍ أخرى في المؤتمرات الرسمية وعلى رأسها مؤتمر “هرتزيليا” الذي يشارك فيه كبار المسؤولين من الولايات المتحدة، ومنهم رؤساء سابقون وأيضاً أعضاء في الأمم المتحدة، وغيرهم من الخبراء والكوادر السياسية، حيث تمّ مناقشة فكرة إيجاد وطن بديل للفلسطينيين -خارج فلسطين- كحلّ نهائي لتلك القضية.

وفي خضم الأحداث الجارية وجراء الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، طُرحت مرة أخرى على الساحة فكرة تهجير الفلسطينيين، ونقل سكان غزة إلى أراضٍ عربية مجاورة على رأسها سيناء، وتهجير سكان الضفة الغربية التي يسيطر الاحتلال على مساحات واسعة منها إلى أراضي المملكة الأردنية المجاورة، وهو ما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية ومحو الدولة الفلسطينية بأكملها.

إن فكرة طرد الفلسطينيين لم تكن مجرد فكرة راودت أذهان النخبة من المؤسّسين الصهيونيين، بل طرحت كخطط ومشاريع كان يتمّ البحث فيها في إطار مجالس الحركة الصهيونية، وتبنتها شخصيات مؤثرة ذات انتماءات سياسية مختلفة داخل الحركة.

ويلاحظ على هذه الخطط أنها سعت في الغالب لدفع الفلسطينيين إلى مناطق نائية عن فلسطين، وكان بين المناطق المقترحة، مثلاً سيناء ومناطق في الأردن ومنطقة الفرات الأوسط في العراق ومنطقة الجزيرة السورية، وكذلك اقترحت ليبيا والأرجنتين في مرحلة لاحقة لقيام الدولة.

وكشف تقرير لوكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، أن الاحتلال الصهيوني يغيّر القوانين في الضفة بما فيها القدس للاستيلاء على الأراضي، مشيراً إلى أن مسوغات سلطات الاحتلال لتقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين شطري مدينة القدس المحتلة جاءت متناقضة في ظل عمليات التهويد، والأسرلة، ومخططات الاستعمار.

وأضاف التقرير، أن الاحتلال يمارس شتى عمليات التضييق على المواطنين الفلسطينيين، بهدف تغيير الواقع الديمغرافي في مدينة القدس، بحيث تنخفض نسبتهم إلى 20 بالمئة من إجمالي السكان في المدينة بشطريها مقارنة بـ40 بالمئة، من خلال هدم البيوت، التي تمارس على نطاق واسع.

وفي هذا الصدد، تخطّط سلطات الاحتلال هذه الأيام لهدم حي البستان في القدس الشرقية، وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم، حيث هدمت بلدية الاحتلال في القدس شققاً سكنية، ومركزاً مجتمعياً صغيراً، وأجبرت أكثر من 30 مواطناً على ترك منازلهم، مستغلة حينها توقيت الانتخابات الرئاسية الأمريكية للهروب من انتقادات وإدانات المجتمع الدولي.

وأكدت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية “عير عميم”، “أن بلدية القدس ترزح تحت تأثير اليمين الإسرائيلي المتطرف وشرطة إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وأن هدم المنازل في شرق القدس، يهدف إلى هدم كل حي البستان وتشريد 1500 من ساكنيه”.

وكانت الجمعية قد أفادت في تقرير سابق لها، بأن سلطات الاحتلال هدمت أكثر من 140 منزلاً ووحدة سكنية في القدس الشرقية منذ بداية حرب الإبادة على غزة.

ووفقاً للمجلس النرويجي للاجئين، دمر الاحتلال 128 مبنى فلسطينياً في القدس الشرقية بين الأول من كانون الأول والثاني إلى آب من العام الحالي، 19 من هذه المباني كانت في حي البستان، ما أدّى إلى تهجير 52 من سكانه.

أما محافظة القدس فقد أكدت بدورها مؤخراً أن سلطات الاحتلال نفّذت 320 عملية هدم، بينها أكثر من 87 في بلدة سلوان منذ السابع من تشرين الأول 2023، وأن هناك أكثر من 30 ألف عقار في القدس الشرقية مهدّد بالهدم، ما سيؤدي إلى تشريد وإلحاق خسائر اقتصادية بحياة نحو 100 ألف مقدسي.

وتتعرّض بلدة سلوان جنوبي القدس المحتلة لاستهداف منهجي، وخاصة أحياء البستان، ووادي الربابة ووادي قدوم، لقربها من المسجد الأقصى، لتنفيذ مخططات الاحتلال بهدمها، لإنشاء ما يُسمّى بـ”الحدائق التوراتية”، وما يسمّى “حديقة الملك” على أنقاض المنازل، وعلى أراضي أصحاب الحيّ، حيث وضع المتطرف بن غفير سياسة هدم المنازل، والتطهير العرقي في القدس على جدول أعمال وزارته.

سياسة التهجير التي يتّبعها الاحتلال ليست بالجديدة عليه، فقد قال ديفيد بن غوريون سنة 1938 مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية: “أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي”.

ليس ثمة داعٍ هنا لاستعراض “القوانين الدولية”، التي تقف ضد الترحيل القسري، فهي كثيرة، ولكنها تبقى حبراً على ورق، مثل أي شيء يخصّ قضية الفلسطينيين في المؤسّسات الدولية. لكن لا بدّ من التذكير بإجراءات التهجير القسري التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في بلدهم، لأن ذلك شيء ضروري للوقوف على سياسة الاحتلال، حيث يتّبع الاحتلال الإسرائيلي تسع سياسات تتسبب بتهجير الفلسطينيين قسراً عن ديارهم، وهذه السياسات هي:

1- الحرمان من الإقامة والسكن: تنطوي على إلغاء إقامة المواطنين الفلسطينيين، وحرمانهم من تسجيل أبنائهم أو عرقلة ذلك، وحرمانهم من لمّ شمل أسرهم، وتغيير محلّ إقامتهم أو تعطيله، وغير ذلك.

2 – فرض نظام استصدار التصاريح: يسهم هذا النظام في منع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم وأماكن عملهم ومراكز الرعاية الصحية وغيرها.

3- مصادرة الأراضي ومنع أصحابها من استعمالها والانتفاع بها: ينفذها الاحتلال من خلال تسجيل الأراضي إلى فئات، ويستولي عليها من الناحية القانونية.

4 – التمييز في سياسات التنظيم والتخطيط الحضري: تستهدف الفلسطينيين عن طريق احتواء أعدادهم، ونتيجة لها تعيش آلاف الأسر الفلسطينية في ظروف تشهد الازدحام والاكتظاظ وتفتقر إلى الأمان.

5 – الفصل العنصري: تهدف هذه السياسة إلى محو الهوية القومية الفلسطينية وطمس معالمها.

6 – حرمان الفلسطينيين من الاستفادة من مواردهم الطبيعية والحصول على الخدمات العامة: منع الفلسطينيين من الوصول إلى المياه العذبة.

7 – إنكار حق العودة.

8 – قمع المقاومة.

9 – الأعمال التي تنفذها أطراف غير حكومية (وتحظى بموافقة مبطنة من جانب “إسرائيل”).

إن الادعاء بأن ما يُسمّى بـ”خطة الجنرالات” تمّت الموافقة عليها من قبل المستويات السياسية والعسكرية أو يتمّ تنفيذها من قبل الكيان هو ادعاء كاذب تماماً، وما قيل إن الكيان وعد رسمياً إدارة بايدن، بأنه لا ينوي تهجير الفلسطينيين قسراً من شمالي قطاع غزة أو تجويع السكان المدنيين هناك، هو ذرّ للرماد في العيون لكسب الوقت.

الواقع أن العملية العسكرية الإسرائيلية في جباليا دفعت 55 ألف فلسطيني إلى الرحيل، وقُتل المئات من الفلسطينيين، كثير منهم من النساء والأطفال في هذه العملية، بما في ذلك الغارات الجوية على المباني السكنية.

بالمقابل، أعلنت المقاومة الفلسطينية خلال “طوفان الأقصى” أنها ستبدأ باستخدام معادلة “التهجير بالتهجير”، وستبدأ بدكّ عسقلان لتهجير المستوطنين منها، كخطوة أولى قبل البدء بتهجير مستوطني ما بعد عسقلان. وفي بيان المقاومة، قال الناطق العسكري باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة: “إذا لم يوقف الاحتلال سياسة تهجير المدنيين، فستواصل الكتائب دكّ مدينة عسقلان حتى تهجيرها بالكامل، ثم ستنتقل لتهجير مدينة أخرى رداً على جرائم التهجير بحق المدنيين”.

خلاصة القول، بدأت مخططات التهجير منذ قرن تقريباً، وحتى اليوم لا تزال تلك المقترحات تناقش وتسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إيجاد ثغرات تحقّق لها أهدافها في التخلّص من ملف الفلسطينيين والقضية الفلسطينية. وتقول الشواهد التاريخية إن المخططات الصهيونية تجاه القضايا الفلسطينية المصيرية تمّ مواجهتها من قبل الشعب الفلسطيني بقوة من خلال الانتفاضات الفلسطينية المتكررة التي دائماً ما كانت تقف أمام أي تهديد صهيوني حقيقي.