بفعل العصابات الإرهابية.. التهجير القسري يؤلم السوريين والمطلوب المزيد من آليات الدعم النفسي والاجتماعي
ليندا تلي
مُلملماً آلامه وغصّاته على شقاء عمره الذي نسفته رياح الحرب الهوجاء، ودّع “أبو رامز” أفراد أسرته ليلتحق بركب من اغترب لتأمين حياة كريمة تليق بهم.
لم تكن “أم رامز” بأفضل حال من زوجها بعد أن أصبحت المعيل الوحيد لأسرتها، تدقّ أبواب الأسر الميسورة للعمل لديهم كخادمة لكسب ما يكفل لها سدّ جوع عائلتها المكوّنة من ثلاثة أفراد أكبرهم “رامز” ابن الثالثة عشرة الأوفر حظاً بدفع فاتورة التهجير، وخاصّة بعد تركه مقاعد الدراسة لينخرط في العمل لدى “كومجي” الحيّ الذي هُجروا إليه.
حال أسرة “أبو رامز” كغيرها من الأسر المهجّرة التي دفعت فواتير قاسية مُذ اندلاع شرارة الحرب على البلاد بحثاً عن أماكن تتيح لهم حياة آمنة، بدءاً من أطفال أُجبروا على التكيّف السلبي بطرق شتّى، ونساء بتنَ المعيل لأسرهنّ في وقت تفوّقت أعدادهن على الرجال، وهي ظاهرة طبيعية لما حصدته رحى الحرب من أرواح الشباب أو ممن هاجر لأسباب عدّة لن نخوض في تفاصيلها ولكن كان حرياً بنا تسليط الضوء على أزمة التهجير وتداعياتها على الأسرة.
هجرة وتهجير قسري
تُعرف الأزمة بأنها الخبرة التي تكون غير متوقعة ومهدّدة للحياة وخارجة عن السيطرة وعن النطاق الطبيعي، وفق الدكتورة صافيناز جاويش “إرشاد نفسي”، ويستجيب لها الأفراد بالعديد من ردود الفعل سواء الجسدية، أم السلوكية، أو العاطفية، والإدراكية، في حين وصفت الهجرة من الناحية النفسية بأنّها انتقال للأفراد إرادياَ من وطنهم إلى بلد جديد، مما يسبّب تغيّرات نفسية، بينما يُشير مصطلح التهجير القسري إلى إجبار عدد كبير من أفراد المجتمع، أو أحياناً مجتمعات برمّتها على ترك منازلهم وأوطانهم عنوة وقسراً، وهي الحالة التي عرّفتها المنظمة الدولية بأنها الهجرة بغرض الهروب من الاضطهاد، أو الصراع، أو القمع والقهر، أو التلوث البيئي، أو الكوارث بأنواعها، أو المواقف والظروف التي تهدّد حياة الأفراد، أو حريتهم، أو رزقهم ومعيشتهم.
أسباب نفسية للتهجير
أدت الحرب الإرهابية على سورية، إلى تهجير ملايين السوريين قسراً، نصفهم نزحوا داخلياً، والنصف الآخر إلى خارج البلاد، واليوم، تعدّ سورية من الدول المستقبلة للمهجّرين، منذ النكبة الفلسطينية، وكانت من الأسباب النفسية التي دفعت إلى التهجير الخوف من العنف، ومن الكوارث الطبيعية، والقلق من المستقبل ومشاعر الفقدان، والشعور بالعجز نتيجة لعدم القدرة على تلبية حاجاتهم الأسرية الأساسية، والرغبة في الحصول على فرص عمل لتحقيق الأمان الاقتصادي. ولفتت جاويش في سياق حديثها إلى وجود بعض الاضطرابات التي يمكن أن تطال الصحة النفسية في حالات الأزمات مثل الاكتئاب، والقلق، و”الكرب” ما بعد الصدمة وهو ما يحدث عندما تستمر ذكريات حدث مزعج في العودة مراراً وتكراراً لغزو الأفكار، ويستمر هذا أكثر من شهر، ويمكن أن يستمر فترة أطول بكثير، ويمكن للذكريات أن تكونَ مخيفة جداً ومزعجة، ومن التدخلات النفسية المجتمعية الدعم النفسي الاجتماعي، وهو مصطلح يدلّ على تقديم مجموعة من الإجراءات وعمليات المساعدة استناداً إلى أسس نفسية اجتماعية، لتعزيز قدرة الأفراد والأسر والمجتمعات على التحمّل والصمود، كذلك مساعدة الأفراد على التعافي بعد مواجهة أزمة قد تسبّب اضطراباً في حياتهم وصولاً إلى مستوى مناسب من الصحة النفسية للأفراد.
أدوات تكيّف سلبية
بسبب الحرب هناك الكثير من العائلات اﻟﻨﺎزحة تحمّلت المزﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻮن للتّكيف مع الظروف المعيشية الصعبة بسبب تدهور الظروف المعيشية التي أجبرت العائلات على تبني آليات تأقلم سلبية، وبحسب إحصائيات اليونسيف هناك 17٪ من العائلات المهجرة داخلياً يوجد لديها طفل واحد أو أكثر خارج المدرسة، وفق ما ذكرت الدكتورة عبير سرور “علم اجتماع”.
وتجلّت أدوات التكيّف السلبية التي اتبعتها الأسر المهجّرة، بحسب سرور، بالتسوّل والعيش المشترك وعمالة الأطفال وزواج القاصرات والتسرّب المدرسي، مؤكدة أنّ ملايين الأطفال السوريين وُلدوا منذ بدء الحرب وهم لا يعرفون شيئاً سوى الحرب والتهجير، وكثيراً ما يواجهون تحديات عديدة أثناء انتقالهم من المكان الذي اعتادوا العيش فيه إلى المكان الذي يقصدونه وكذلك عند عودتهم، نتيجة قلّة الخيارات وانعدامها التي تتيح لهم حياة مريحة وآمنة، وهذا ما أجبرهم على العمل، والزواج المبكر، والتعرّض أحياناً للاستغلال، والاتجار بالبشر، والعنف، لافتة إلى ما يخسرونه من فرص تعليم ورعاية صحية ملائمة، وعدم تكيّف مع المحيط الاجتماعي الجديد، ما يزيد صعوبة أوضاعهم التي تترك تأثيرات بدنية ونفسية دائمة على الأطفال المتنقلين مما يمنعهم من تحقيق كامل إمكاناتهم.
أكثر الفئات تأثراً
يؤثر سوء المستوى المعيشي على الأسر كثيراً، وفق ما أكدت سرور، إذ يأكل الآباء أقل حتى يتمكنوا من إطعام أطفالهم، وفي الوقت ذاته، يعاني نظام التعليم الإجهاد ونقص الكوادر التعليمية من انعدام مسارات العودة إلى الفصول الدراسية، إذ من المرجّح أن تتأثّر أكثر فئة من الفتيات والمراهقين والأطفال ذوي الإعاقة، في حين بقيت النساء المهجّرات من دون توفّر أدنى حدّ من الرعاية الصحية، ولاسيّما أنّ كثيراً منهنّ حوامل أو مرضعات أيضاً، وقد يتعرّضن للأذى بسبب الأدوار المعقّدة والمتعدّدة، وقد تمتد معاناتهنّ لفترات طويلة حتى بعد انتهاء فترة الحرب، وخاصة عندما يفقدن المأوى والمعيل، إذ يقع على عاتقهنّ النضال من أجل إعادة ترميم حياتهن وحياة أسرهن من جديد. ولم تخفِ سرور ما سبّبته سنوات الحرب في تغيير بنية المجتمع السوري نتيجة وفاة الكثير من الرجال أو هجرتهم لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى ارتفاع معدل حوادث الانتحار.
عالم متسارع التغيير
عملت مرحلة الحرب المفروضة على سورية بأدوات إجرامية وبوسائل لا إنسانية على تهجير المدنيين والأسر والأفراد، مما خلق مشكلات متنوّعة أثّرت على مختلف مناحي الحياة، وفق ما ذكر الدكتور ماهر السالم “كلية التربية”، مضيفاً أنّ آثار التهجير توزّعت بين كيفية تتعلّق بتعدّد منظومات التعليم والتي تؤدّي إلى التباين والاختلاف، وبالتالي التأثير على المخرجات وتحقيق الأهداف، وأخرى تتعلّق بتباطؤ عمليات الإصلاح في عالم متسارع التغيير، وأيضاً تعدّد المنظومات التعليمية يؤدي إلى تعدّد المناهج الدراسية، وما يترتب عليه من اختلاف في معارف الطلبة ومعلوماتهم والاختلاف في التحصيل والمستوى التعليمي والمهارة، وأيضاً آثار كمّية تتعلق بوجود أعداد كبيرة من الأطفال خارج المدرسة، وخاصّة الفئة العمرية (6-11) سنة، فضلاً عن ذلك التسرّب المدرسي الذي زاد بسبب التهجير بعدما سعت الحكومة لمحاربة هذه الظاهرة والتخلّص منها قبل اندلاع الحرب على البلاد، وزيادة انتشار الأمية، وعن التفاوت في التعليم المقدّم للجنسين (ذكور وإناث)، كما أثّر التهجير على التقويم الجامعي وعدم الالتزام به، وتغيير في مواعيد الامتحانات، ناهيك عن جائحة كورونا التي فرضت واقعاً مؤثراً وسلبياً على المتعلّمين، وأيضاً التأثير على المشافي الجامعية والجانب التعليمي التطبيقي الخاص بالطلبة والضغط الهائل على تلك المشافي من ناحية الخدمات المقدّمة، مما أثّر على جودة المخرجات، الأمر الذي تطلّب إيجاد حلول لتلافي هذه الآثار من خلال سياسات الحكومة بالتعاون مع المجتمع المدني.
تغيّر سلوكي ونفسي
قسّمت الدكتورة حياة النابلسي “علم نفس” المهجّرين حسب تأثّرهم بالأزمة إلى ثلاث مجموعات يعاني الأغلبية منهم تغيّراً سلوكياً ونفسياً قد يتمثل بالأرق والشعور بالضيق والقلق، وأحياناً اضطرابات النوم، وقد يلجؤون إلى التدخين مثلاً. ومن المرجح تعافيهم من دون تدخل علاجي، أمّا الفئة الثانية فهي فئة أصغر من الفئة الأولى قد يستمر الأرق لديها بالإضافة إلى استمرار السلوكيات السابقة لفترة أطول وعدم القدرة على التكيّف معها، وهذه الفئة من المتوقع أن تحتاج إلى خدمات داعمة نفسية واجتماعية وأحياناً طبية، أمّا الفئة الثالثة وهي فرعية صغيرة فيمكن أن تتطور الأعراض السابقة لديهم وقد يلجؤون إلى أساليب تكيفية يمكن أن تكون غير سويّة، مثل الهروب من الواقع باللجوء إلى سلوكيات لا اجتماعية أحياناً أو الإدمان على المخدرات مثلاً، وهذه الفئة أكثر تعرّضاً للاضطرابات النفسية أو اضطراب ما بعد الصدمة مثل الاكتئاب، وهذه الفئة تحتاج إلى تدخل علاجي متخصّص.
تخفيف آثار حالات الطوارئ
تقديم الدعم النفسي لضحايا الحرب والأفراد النازحين واللاجئين، سواء أكان “معنوياً أم عاطفياً أم معلوماتياً أم مادياً” بحسب جاويش، يهدف إلى توفير الاحتياجات النفسية والاجتماعية للأفراد والأسر (هرم ماسلو)، وتوفير مساعدة مباشرة للأشخاص من خلال المعلومات والتثقيف، وتحسين السمات الحيوية لهم على المدى القصير (التخفيف من التوتر)، وتحقيق آليات الاندماج (مهارات التوافق السلمية)، وتعزيز المرونة، وإكساب المهارات والقدرات والمعارف لاتخاذ القرارات، وتعلّم أساليب فعّالة في إدارة الأزمة، والوقاية من الاضطرابات النفسية المصاحبة للأزمات، والتعافي من الصدمات، وتحقيق مستوى مناسب من الصحة النفسية، إذ يحتاج جميع الأشخاص للوصول إلى الأمن والخدمات الأساسية، وهذا يعدّ شرطاً أساسياً للتعافي والحفاظ على صحتهم (النفسية) وراحتهم بطرق تدعم حقوق الإنسان والكرامة والمساواة بهدف تخفيف آثار حالات الطوارئ، ومنع التعرّض للمزيد من الضرر، وتعزيز راحة الأطفال والعائلات والمجتمعات.