دراساتصحيفة البعث

حلب.. إعادة إنتاج الحرب على سورية

د.معن منيف سليمان

شنت التنظيمات الإرهابية المرتزقة هجوماً عسكرياً واسعاً، بالتوازي مع انتشار خلايا نائمة على مدينة حلب، ما أثار تساؤلات كثيرة حول طبيعة الهجوم والتخطيط له وتوقيته، وهل جاء هذا الهجوم بدون إعداد وتجهيز وتنسيق مع أطراف خارجية وإقليمية، من حيث تقديم الدعم المادي واللوجستي والخبرات التقنية الذي تفوق قدراتهم ولا يمتلكها إلا أطراف دولية معروفة بعينها؟.

تؤكد مجريات الأحداث بأن هذا الهجوم ما هو إلا إعادة إنتاج للحرب على سورية بواسطة التنظيمات الإرهابية المرتزقة التي تحارب بالوكالة عن قوى خارجية تهدف إلى تفكيك سورية وفرض السيطرة الإقليمية عليها، فالتدخلات الخارجية تمثل عاملاً أساساً في تعقيد الأزمة السورية، لأن التنظيمات المرتزقة تعمل في إطار مشاريع تركية وأمريكية وإسرائيلية، ولا يتحركون إلا بالضوء الأخضر والاستئذان، ووفق لتوقيت محدد وخطط موضوعة بإحكام ودقة وبأهداف مرسومة. ومع أن الولايات المتحدة أعلنت أنها “لا تعلم شيئاً عن الهجوم ولا علاقة لها به”، في الوقت نفسه، لا يمكن استبعاد سرور واشنطن والكيان من إمكان أن تستطيع الفصائل الإرهابية المتقدمة تغيير الواقع. ولم يكن ليحدث الهجوم لو كانت أمريكا تعتقد أنه لا يصبّ في مصلحتها أو مصلحة الكيان، فالولايات المتحدة ينتشر لها في سورية حالياً 28 موقعاً غير شرعي منها 24 قاعدة عسكرية، و4 نقاط تواجد، تضم ما بين 2000 ـ 3000 جندي.

وقد تزامنت هجمات التنظيمات المسلحة مع قصف وهجمات شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، على بعض المناطق في سورية ضمن حربها على حزب الله. بجانب أن ميليشيات جبهة النصرة الإرهابية حاولت العمل ضمن جبهة الكيان، رهاناً على انشغال إيران وروسيا بالصراع الإقليمي والدولي، وانشغال حزب الله والخوف من مغادرة لبنان خوفاً من الاغتيالات.

أما ما يثير الريبة والشك فيما يتم التخطيط له هو “الصمت الإسرائيلي” تجاه ما يجرى في الشمال السوري، وسط تلميحات بمعرفة الكيان المسبق بالهجوم الكبير، وهو ما يتوافق مع تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني عقب إعلان الهدنة الهش مع لبنان بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، دون تعليق من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى سواء بالسلب والرفض أو بالإيجاب والموافقة، ولكنه بالصمت الذي يؤكد الموافقة.

رسم خارطة الشرق الأوسط مع الهجوم الأخير التنظيمات الإرهابية المسلحة يبدو أنه سيكون عبر جيوش المرتزقة وشركات الأمن، فـ”تنظيم هيئة تحرير الشام” الإرهابي – على سبيل المثال – اندمج فيه تنظيمات وعناصر أخرى ومرتزقة من خارج سورية فتضاعفت قوته كثيراً.

من اللافت أن الهجوم جاء بعد يوم من دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان وحزب الله في لبنان حيز التنفيذ، ما يدل على أن مشغل تلك الجماعات المسلحة يريد استغلال الواقع الإقليمي المستجد في ظل عملية “طوفان الأقصى”، وبعد انتهاء العدوان على لبنان.

ولا يُمكن شرح ما يحدث في سورية من منظورِ حَدَثٍ منفرد، بل تتعدّد العوامل والأسباب وتتلاقى المصلحة بين الدول التي تنسّق في ما بينها، أو في بعض الأحيان لا تحتاج لذلك ما دامت الظروف الجيو – سياسية مهيأة.

وما حصل من السيطرة على أرياف إدلب ومدينة حلب وأريافها، وبلوغ القوات المهاجمة أعتاب مدينة حماة، ربما يهدف فرْض خط تماس جديد وتحسين شروط تركيا التفاوضية من موقع أقوى وإجبار كل الأطراف المعنية على التنازل حول طاولة المفاوضات لتحديد سقوف الحرب والسلام ومحاولة تغيير الواقع الحالي المسدود.

ولم تكن المجموعات المسلّحة لتتحرك من دون دعم مالي ضخم، أو تذهب إلى الحرب من دون غطاء تركي واضح. ويتجلّى ذلك في استقبال إسطنبول للوفود القادمة ودعوتها، باسم المجموعات المسلحة المتقدّمة، للجلوس إلى طاولة المفاوضات والعودة لاتفاق أستانا والبحث عن مخرج في ضوء التطورات المستجدة. ففي كل الحروب المخطَّط لها، منها ما يسير بحسب تفاصيل مُعَدّة سابقاً، وأخرى يجب تحديثها بحسب مسار الهجوم والفرص الناتجة عنه. فإذا انهارتْ الجبهةُ أكثر، من المتوقَّع أن تندفعَ القواتُ المهاجمة لتحتلّ مواقع متقدمة.

ومن المفترض أن تركيا هي الضامن لضبط سلوك الفصائل التابعة لها في الشمال بموجب تفاهمات أستانا، مقابل التزام سورية وروسيا وإيران بوقف العمليات العسكرية، ولكن تصريحات المسؤولين الأتراك تقدم تفسيراً لعدم منع هذه العمليات خطير جداً وهي أطماع عثمانية في حلب.

إن كل الدلائل تشير إلى أن تركيا تقف بكل قوتها خلف الهجوم الكبير للفصائل المسلحة، وهي ما كانت لتجرؤ على شن الهجوم لولا الضوء الأخضر التركي، وذلك لفرض مبدأ “التفاوض بالنار”، وذلك على خلفية رفض السيد الرئيس بشار الأسد للدعوات المتكررة التي وجهها الرئيس التركي لتطبيع العلاقات، وهو ما مثل إهانة لأردوغان، الذي قرر استخدام ورقة الفصائل العسكرية وتغيير الخريطة الميدانية، لدفع دمشق إلى طاولة المفاوضات، وحجز مكان له في المرحلة القادمة بعد قدوم دونالد ترامب.

باختصار لم تكن الحرب في سورية منذ نشوبها عام 2011 حرباً من أجل الحرية، لكنها حرب تمثل أطرافاً إقليمية ودولية وأجهزة استخبارات، وهي تفاصيل أعلنت في حينها، وتمثل قاعدة في عمل التنظيمات الإرهابية التي تغير أسماءها، لكنها تبقى ممثلة لأطراف متعددة، تمولها أو تقدم لها الدعم. ثم إن التنظيمات الإرهابية المتنوعة “داعش” وأخواتها، لم تكن لها أية علاقة بالتغيير أو السعي للحريات، لكون هذه التنظيمات مجرد أدوات تستعمل لأهداف سياسية، وبعد هزيمة “داعش” في العراق وسورية، تبقى فلولها مستعدة للعمل كوكلاء لصالح أي أطراف تمولها وتدعمها.