صناعة الأزمات.. تخبّطٌ لا ينقذ واشنطن من مصيرها
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
لا يختلف اثنان على أن السياسة الأمريكية المتبعة حول العالم تاريخياً هي إشعال الأزمات ومحاولة النفاذ من خلالها إلى البلد المستهدف من صناعة الأزمة، فليس بعيداً أن الولايات المتحدة كانت تقف في الظل في بدايات الحرب العالمية الثانية، ثمّ تولّت فيما بعد جنيَ ثمار هذه الحرب التي كان أغلب ضحاياها في أوروبا الطبيعية وآسيا بعيداً عن الولايات المتحدة التي وقعت الحرب خارج أرضها.
هذا البرنامج تتعمّد واشنطن استخدامه في جميع الأزمات، حيث تعمد إلى صناعة أزمة ما في مكان معيّن من العالم وتصبّ الزيت على نارها من بعيد محاولة عدم وصول النار إلى ثوبها، فجميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة تاريخياً كانت خارج أرضها، لأنها على وجه الحقيقة لا تستطيع أن تضمن الوضع الداخلي لها إذا كانت الحرب تجري في أراضيها، ومن هنا كان أكبرَ تحدٍّ يواجه الولايات المتحدة منذ تأسيسها عام 1787، أزمة الكاريبي التي وضعت البرّ الأمريكي في مواجهة مباشرة مع الصواريخ الاستراتيجية السوفييتية، حيث انتهت الأزمة بسحب كل من الطرفين صواريخه الاستراتيجية من حدود الطرف الآخر، بعد أن نشر الاتحاد السوفييتي صواريخه النووية في كوبا، بينما نشرت الولايات المتحدة صواريخها في كل من إيطاليا وبريطانيا وتركيا.
ومنذ ذلك الحين تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على محاصرة الاتحاد السوفييتي أو وريثه الشرعي روسيا الاتحادية داخل حدودها عبر نشر قواتها على مقربة من حدود هذه الدولة، ومن ضمنها الصواريخ النووية طبعاً، وهذا الأمر جعلها تتمدّد تحت ستار حلف شمال الأطلسي إلى حدود روسيا الغربية عبر البلقان ودول المعسكر الاشتراكي السابق، وعبر تركيا جنوباً وأفغانستان التي احتلّتها لاحقاً، وهذا كله طبعاً بالاعتماد على صناعة الأزمات في هذه المناطق أو بالقرب منها لتبرير وجودها العسكري هناك.
الخوف الوجودي الذي يجتاح هذه الدولة منذ البدايات الأولى لتأسيسها جعلها دائماً تعمل على إشعال الجبهات في المناطق التي تعدّها تهديداً استراتيجياً لها لاستنزاف عدوّها المفترض ومنعه من التفكير لاحقاً بالتمدّد نحوها، وهذا على الأغلب ما تصنّفه واشنطن دائماً تحت عنوان عريض هو “الدفاع عن أمنها القومي”، فهي إذن تعدّ كل محاولة في العالم حتى لو لم تكن مستهدَفةً من خلالها بشكل مباشر تهديداً لأمنها القومي، ومن هنا فإن التمدّد الأمريكي العسكري خاصة خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية هو في العقلية الأمريكية بمنزلة حرب استباقية على الخصم المفترض، لمنعه من التفكير في التمدّد نحوها، أو تهديد أمنها القومي كما تدّعي سواء أكان ذلك مبرّراً أم غير مبرّر.
والآن وبعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة العالمية الدقيقة التي يتعيّن فيها تشكيل نظام عالمي جديد يأخذ مصالح القوى العظمى الجديدة بعين الاهتمام، ازدادت الحاجة في داخل الولايات المتحدة إلى العودة إلى هذه السياسة، فكان أن غامرت الإدارة الأمريكية بمصالح من تعدّهم حلفاءها الأوروبيين، بدفع أوكرانيا من داخل أوروبا إلى الاشتباك مباشرة مع روسيا لمنعها من حجز مكان لها في النظام العالمي الجديد أو الإبقاء على الوضع القائم الذي تحتلّ فيه مرتبة الهيمنة الكاملة، ولكنها وجدت أن الفخّ الأوكراني لم يأتِ بالنتائج المرجوّة منه بعد نحو ثمانية أشهر من الحرب بالوكالة مع روسيا عبر أوكرانيا، فلجأت مجدّداً إلى إشعال جبهات أخرى تستنزف فيها روسيا وحلفاءها دون أن تضطرّ إلى إطلاق رصاصة واحدة، فكان أن أعادت إلى الواجهة الأحلام الانفصالية لتايوان على الرغم من إقرار الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الأمريكية بسياسة الصين الواحدة، وهي تسعى في جميع الاتجاهات لاستفزاز الصين في هذه المنطقة الحيوية من العالم، في محاولة لضرب التحالف بين روسيا والصين في الصميم، ولكن محاولاتها باءت بفشل ذريع، الأمر الذي جعلها تثير الأزمة بشكل آخر عبر أستراليا، وفي هذه المحاولة فشلت أيضاً، والآن تركّز على استفزاز كوريا الديمقراطية خدمة للأهداف ذاتها، وإلى الآن لم تتمكّن من ذلك.
وتأتي محاولاتها المستمرّة لصناعة الأزمات حول العالم بشكل ربما يوحي أحياناً بنوع من التخبّط، ولكنه في حقيقة الأمر مبرمج ومنظّم للحؤول دون فقدان هيمنتها، فالأمر الآن صار وجودياً بامتياز، وحقيقة صعود أقطاب أخرى إلى العالم تؤرّق بالدرجة الأولى حكام الظل في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي هم يوجّهون سياسة البيت الأبيض دون اكتراث بآراء السياسيين في هذا المجال، لأن إمبراطورية المال التي تمّ بناؤها في ظل هذه الإمبراطورية التي هي في حقيقة الأمر واجهة سياسية فقط، باتت معرّضة للانهيار، وبالتالي فإن المعركة الآن أخذت شكلاً آخر ينذر باندلاع مواجهة كبيرة في هذا العالم، وربما كما تكهّن بعض الساسة الأمريكيين، معركة هرمجدون “نهاية العالم”، ومن هنا صار كل حليف لروسيا أو الصين في هذا العالم معرّضاً لردّات الفعل الأمريكية هذه.
ومن هنا يأتي حديث الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن حول “تحرير إيران” صدى حقيقياً لما يحدث في أروقة السياسة الأمريكية، ولكن لسان بايدن خانه فاضطرّت السلطات الأمريكية إلى تصحيح الموقف، وأبلغت طهران عبر قنوات دبلوماسية أن هذه التصريحات لا تمثل الموقف الأمريكي.
ولكن ما دعا مجلس الأمن القومي الأمريكي فعلاً إلى التراجع أن ذلك يمكن أن يدخل واشنطن في صراع عسكري مباشر مع طهران، وخاصة بعد فشل جميع المحاولات الأمريكية في صناعة الثورات الملوّنة في إيران، واعترافها الصريح بهذه المحاولة، مقابل تهديد إيراني واضح باستهداف المحرّضين، الأمر الذي يضعها مباشرة في مواجهة ردّ الفعل.
وبالمحصّلة الردّ الإيراني جاء حاسماً على هذه المحاولات الأمريكية، ولم تتمكّن واشنطن خلال الأربعين سنة الماضية من تغيير سياسة إيران وإعادتها إلى الحظيرة الأمريكية، فكيف بتصريح يعترف مؤخراً أن واشنطن وقفت خلف الأحداث الجارية في إيران مباشرة وأنها تدعم “داعش” بشكل مباشر في زعزعة استقرار هذا البلد؟.
كل ذلك ربما يؤكّد أن السياسة الأمريكية المثيرة للأزمات حول العالم يمكن أن تنزلق في اتجاه يجعلها في مواجهة مباشرة مع الأطراف التي تحاربها بالوكالة، فمجلس الأمن القومي يدعم “داعش” في محاربة إيران بالوكالة، ولكنه لا يتبنّى التصادم معها بشكل مباشر، وهو يدعم أيضاً تحريض الأوروبيين بمن فيهم أوكرانيا على محاربة روسيا ولكنه لا يستطيع مواجهتها بشكل مباشر، لذلك لا بدّ من جرّ قدم واشنطن إلى حرب مباشرة تكون كفيلة بإعلان نهاية هذه الإمبراطورية التي تستمدّ أسباب بقائها من صناعة الأزمات حول العالم.