مجلة البعث الأسبوعية

الشراكة بين الصين وأمريكا اللاتينية.. تعزيز للسلم والتنمية ودحرٌ للقطبية والهيمنة

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:

بعد أن درج على تسميتها دول “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة الأمريكية، تتابع دول أمريكا اللاتينية وبحر الكاريبي تحررها من هذه التسمية، وتكسر قيود الهيمنة باتجاهها شرقاً وتعاونها الوثيق مع الصين، والتي بدورها تمدّ أذرعها للتعاون مع جميع دول العالم استكمالاً لمبادرة الحزام والطريق، وترى في هذه المنطقة امتداداً فعالاً لمبادرتها، حيث زارها الرئيس الصيني أكثر من عشر مرات لبحث المزيد من تعزيز العلاقات معها في ظلّ انصباب تركيز واشنطن على تمتين نفوذها في المنطقة الممتدة بين المحيطين الهادئ والهندي لمحاصرة الصين والحدّ من نموها الاقتصادي السريع، الذي تعتبره واشنطن من قبيل المنافسة لها والخطر على هيمنتها، وعلى الرغم من قيام واشنطن بتمتين علاقاتها مع دول شمال آسيا التابعة لنفوذها لإطباق الحصار على بكين، واكتمال رسمها لملامح ما يشبه “ناتو آسيوي”، فإننا نرى الآن الصين تمدّ نفوذها وبطريقة أقوى فيما كانت تعده الإدارة الأمريكية حديقة خلفية لها، وتوسع تعاونها الاقتصادي في جميع منطقة بحر الكاريبي، مع وجود مبادرات من دول تلك المنطقة لتشكيل تحالف مع الصين وروسيا دعا إليه الرئيس الفنزويلي نيكولاس ما دورو وانضمت إليه بقية دول المنطقة.

كذلك يبرز المظهر الاقتصادي في العلاقات التجارية التي تصب في خانة كسر هيمنة الدولار على المبادلات التجارية الدولية، إذ شهدنا مؤخراً اتفاقاً بين الصين والبرازيل للتبادل التجاري بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار، حيث تعد الصين الشريك الاقتصادي الأول لها، بحجم تبادل بلغ في العام الماضي 150 مليار دولار، وما يجري يتكامل بلا شك مع خطوات الدول الأخرى لكسر التعامل بالدولار، وأهمها خطوة روسيا للتعامل بالروبل بدلاً من الدولار لبيع النفط والغاز وحوامل الطاقة للدول غير الصديقة، والاتفاقات الثنائية المماثلة للتبادل بالعملات الوطنية بين روسيا والصين والهند والسعودية.

وصحيح أن العلاقات الاقتصادية في المنطقة بدأت مع الصين منذ عام 2000 لكنها انتعشت بشكل كبير بعد العام 2010، إذ أصبحت الأخيرة أكبر مستثمر في المنطقة وبأرقام تنافس الاستثمارات الأمريكية بعد أن كانت واشنطن كانت الشريك الاقتصادي الأول لتلك الدول فيما مضى، وتقول الجمارك الصينية: إن حجم التبادل التجاري بين الصين ودول أمريكا اللاتينية تجاوز في العام الماضي مستوى الـ486 مليار دولار، بزيادة تقدّر بـ34 ملياراً عن عام 2021، وسط توقعات لعددٍ من الخبراء الاقتصاديين بأن يصل حجم التبادل إلى مستوى الـ700 مليار دولار سنوياً في غضون عام 2035، بالنظر إلى ازدياد النمو السنوي للاقتصاد الصيني بنسبة تفوق الـ5%، وبحث الأخيرة عن أسواق جديدة وواسعة لعدد من شركاتها التي تعاني من العقوبات الاقتصادية الأمريكية الأحادية وعلى رأسها عملاق الاتصالات “هواوي”، وهذا يعكس مقدار تنمية الناتج الإجمالي الذي يحققه الوجود الاقتصادي الصيني لتلك الدول من خلال زيادة الشركات الصينية ورأس مالها، وما يترتب عليه من دفعها للضرائب، وزيادة فرص تشغيل اليد العاملة الوطنية فيها.

وفي سياقٍ آخر فإن الصين تعزّز وجودها في المنطقة عبر مظاهر عديدة، حيث تبني علاقاتٍ دبلوماسية وسياسية متينة ومقبولة لجميع دولها، وبشكل يؤمّن البديل عن العلاقات السيئة التي كانت تربط تلك الدول مع الولايات المتحدة، حيث كانت الثمرة الأهم ابتعاد الكثير من الدول عن بناء علاقات مع تايوان التي تستخدمها واشنطن كأداة سياسية للضغط على الصين، وخلال أربع سنوات قطعت الدوميكان والسلفادور علاقاتها مع تايوان، لتتبعها مؤخراً هندوراس التي قرّرت بناء علاقاتها مع الصين وقطع علاقاتها مع تايوان أيضاً، وهذا يصبّ في مصلحة تقوية ودعم الصين في إعادة ضم تايوان إلى الوطن الأم، أمام الأمم المتحدة وجميع المحافل الدولية التي كانت تحتكر الولايات المتحدة السيطرة عليها، وتحاول كسر حيادية قرار الدول فيها، ما يساهم أيضاً في تلاشي موقف تلك القلة القليلة من الدول التي كانت مضطرة للاعتراف بـ”استقلال تايوان”، فدول المنطقة تبحث عن أفضل شراكة ممكنة لتحقيق المصالح الوطنية، وزيادة حجم التجارة والتعاون الاستثماري، وخاصةً في مجالات التكنولوجيا وتطوير التصنيع، وقد نجحت الصين بشكلٍ فعلي في تحقيق ذلك، ودون ال إضرار بأية دولة أو استغلالها، ورغم التقارب الجغرافي بين واشنطن ودول المنطقة والعلاقات طويلة الأمد، فإن علاقات الأخيرة الإستراتيجية مع الصين عززت من نجاحها في تحقيق مبدأ حياد أمريكا اللاتينية واستقلال قراراها السياسي الخارجي، ومع ذلك تحاول الإدارة الأمريكية النظر إلى هذه العلاقة المزدهرة اقتصادياً، على أنها منافسة صينية لنفوذها، مع العلم أنها بدأت في وقتٍ سابق لحالة التوتر التي تسود علاقات بكين وواشنطن حالياً.

من جهةٍ أخرى فإن علاقات الصين والبرازيل بعد عودة الرئيس لويس إيناسيو لولا داسيلفا إلى السلطة أخذت بالظهور بشكل مؤثر عبر تنشيط دورهما على الساحة الدولية من خلال حلف البريكس، والذي يؤثر على العديد من القضايا والملفات الدولية، وأهمها مسألة التغيرات المناخية التي باتت تحرم العديد من الدول الفقيرة من غلاتها الزراعية وتهدد أمنها الغذائي، حيث يسعى هذا التحالف إلى إنهاء جميع المشكلات المفاقمة لتلك التغيرات وتحقيق التكيف معها، والعمل على حل العديد من المنازعات الدولية، وضمان التنمية لدول جنوب العالم.

أخيراً فإن الخريطة الجديدة لتمتين العلاقات بين دول أمريكا اللاتينية والصين، وغيرها من القوى الناشئة في العالم، ستعود بنجاحاتٍ كبيرة على أطراف العلاقة والعالم عبر إنتاج تكتلات لها وزنها الدولي في تحقيق العالم الجديد وإرساء السلام الدولي، مع التراجع والتهاوي الواضح لسياسة واشنطن والغرب في جميع أرجاء العالم وعلى رأسها مناطق نفوذها.