انتخابات القلق والانقسام
تقرير إخباري:
مع استمرار مشهد الانتخابات النصفية الأمريكية والصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، نلحظ العديد من الملامح غير المسبوقة والغريبة في العديد من المسائل، فالمسألة الأولى تتعلق بزيادة التركيز على موضوع القلق على الديمقراطية، إذ سجّلت استطلاعات الرأي أنّ 70% من الناخبين يرون أنّ الديمقراطية في خطر. ويظهر الانقسام بشكل جلي في المجتمع الأمريكي وكأنّه شبه تعادل وبفروق بسيطة بين الأحمر والأزرق، مع غياب “الأغلبية الساحقة”، كما لا نلحظ ظهوراً ملموساً لمرشحين مستقلين.
ويترافق هذا الانقسام الحاد مع انتشار مخاوف صريحة من اندلاع الحرب الأهلية عزّزتها استطلاعات الرأي العديدة، وخاصةً في صفوف الجمهوريين، فالمجتمع الأمريكي ونتيجة للعولمة بات أكثر تفكّكاً وخاصةً بين البيض والسود وتجاه الأقليات والمهاجرين، وبين مَن يريد ترميم الداخل والنهوض بالاقتصاد بعيداً عن التجاذبات العالمية ومن يدعو إلى ضرورة استمرار هيمنة الولايات المتحدة على العالم كحل لمشكلاتها، يضاف إلى ذلك عوامل أخرى زادت في هشاشة الولايات المتحدة كالحروب الفاشلة لإداراتها المتعاقبة، وعدم تمكّنها من فرض إرادتها على الشعوب، ناهيك عن تشكّل حلف واسع وواضح المعالم من دول العالم الجديد الباحثة عن الاستقلال والتحرّر من سطوة “الإمبراطورية الأمريكية” وامتدادها الغربي.
المسألة الأخرى تتعلق بصعود الجيل الشاب إلى الساحة السياسية، المتمرّس باستخدام الإنترنت وتقنيات العصر كنهج له حتى على صعيد حياته الاجتماعية، والمثقل بالمشكلات المتفشية في المجتمع الأمريكي كالجريمة والمخدرات والعزلة والعنصرية والتضخّم، وحتى نسب المقترعين كانت معظمها من فئة الشباب القلق على مستقبله واللاهث في إيجاد أمل في حل ما يثير مخاوفه، وكان لافتاً في هذا السياق سطوع نجم المرشح الشاب “ماكسويل فروسف” الكوبي الأصل ووصوله إلى الكونغرس عن الحزب الديمقراطي، ويسمّي هؤلاء أنفسهم مرشحي “الجيل زد”، الذي يُقصد به مواليد الفترة ما بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الأول من الألفية الثانية.
من جهةٍ أخرى نستقرئ تغيّر نوعية التنافس السياسي، فالجمهوريون يريدون إقصاء الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل انتهاء ولايته، في حين سبق أن سعى الديمقراطيون إلى محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب، وروَّج متزعمهم بايدن أنّ وصول منافسيه للسلطة يعني انحداراً كبيراً في الديمقراطية ومنعطفاً كارثياً في مستقبل أمريكا، واصفاً إيّاهم بـ”الإرهابيين”، ويرسم ذلك بوضوح أنّ كلاً من الحزبين اكتفى بما يشبه الشخصنة أو الصراع التعصبي دون المجيء ببرامج انتخابية تتضمّن مشروعاتٍ جديدة أو حلولاً لما يكتنف المجتمع الأمريكي من مشكلات عالقة، ما يعني بالطبع أنّ وصول أيّ من الطرفين لن يقدّم حلاً لحالة الاحتقان السياسي أو الانحدار الاقتصادي الحالي للولايات المتحدة، إضافةً إلى أنّ غضّ الطرف عن الواقع الاقتصادي للبلاد يعكس مدى تعنّت الطرفين في السياسة الخارجية وتمسّكهما بموقفهما في التسييس لكل شيء لمجرّد بقاء الهيمنة، وهذا الأمر بالطبع لم يعُد مسكوتاً عنه من أقطاب العالم الجديد القوية اقتصادياً والمستقلة سياسياً، كما ينعكس شكل الصراع والشحن السياسي الداخلي على المجتمع من خلال زيادة العنف وحوادث حالات إطلاق النار، والشك بتزوير الانتخابات وعدم الثقة بالمؤسسات الرسمية بما فيها القضاء الذي كان مرجعاً موثوقاً لحل جميع المشكلات بعد تلقي الطعون الانتخابية.
والأمر الأخطر في هذه الانتخابات يكمن في تنامي الاتهامات بشكل كبير والادّعاءات بالتدخّل الروسي في سيرها، حيث أصبح ذلك شمّاعة تُعلق عليها التهم دون دليل بهدف تعزيز الكراهية داخلياً وحتى أوروبياً لروسيا، وزيادة تحشيد الرأي العام ضدّها بالتزامن مع محاولات واشنطن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا.
والأمر الأحدث الذي أفرزه مخاض الانتخابات يتجلى في شعور الجمهوريين أنّ ترامب مرشح غير لائق للرئاسة في 2024، مقابل صعود منافسه “رون ديسانتيس” وحصوله على عددٍ كبير من الأصوات.
بشار محي الدين المحمد