دراساتصحيفة البعث

هل يمكننا الاستفادة من افكار آدم سميث؟

د. خلف المفتاح

تستدعي الظروف التي تمر بها الشعوب في مفاصل هامة من تاريخها، كما هو حال شعوب منطقتنا، حيث واجهت تحديات غير مسبوقة بفعل الصراعات والحروب والنزاعات التي عصفت ببلدانها، وما تركته من آثار سلبية – سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي والأخلاقي، وغيره – كل ذلك يستدعي البحث عن حلول ومخارج من الأزمات التي تخلفها تلك الصراعات..

من هنا جاء اختيار عنوان هذا المقال لكتاب للفيلسوف والمنظر الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث “ثروة الأمم”، والذي شكل عند صدوره، نهاية القرن الثامن عشر، ثورة في عالم الاقتصاد ورافعة للعالم الرأسمالي، حيث اعتمد سميث في نظريته على مسألتين أساسيتين وهما تقسيم العمل وإخضاع العملية الاقتصادية لقانون العرض والطلب على قاعدة كفاءة السوق، انطلاقا من مقولته المشهورة “دعه يعمل دعه يمر”، إضافة إلى أنه عأرض حينها فكرتين ونطريتين تتعلقان بالاقتصاد وقوته، وهما النظرية الميركانتيلية القائمة على العمل التجاري وتراكم الأموال وتكديسها استنادا لعملية النهب من المستعمرات، كالذهب والفضة وغيرهما من معادن ثمينة، وكذلك الفكرة القائمة على أن الزراعة والأرض هما أساس الاقتصاد وقوته، أي الموارد الطبيعية, وقد انتقد سميث الفكرتين كليهما مبيناً أن الثروة ليس مصدرها التجارة أو الأرض، فالتجارة تتعامل مع سلعة موجودة والأرض تحتاج للعمل، وهنا يصبح مصدر الثروة في الحالتين هو العمل، فقيمة الاقتصاد لا تكمن فيما هو موجود في الأرض وإنما بعملية إنتاجية فاعلة لا تنتهي حتما مع الزمن، فالعبرة في ناتجها المحلي – زراعة أو صناعة – وإنما بوصفها عملية إنتاج فاعل.

والى جانب ذلك، طالب سميث بتحرير العملية الاقتصادية من القيود على قاعدة “دعه يعمل دعه يمر”، وحدد وظيفة الدولة أو السلطة في هذا المجال بالعمل على:

1- تحرير العملية الاقتصادية على قاعدة العرض والطلب، وعدم تقييد حركة السوق ورفض “سياسة التدخل” لأنها تخلق حالة من اللاتوازن فيه، وتفسح في المجال لما أطلق عليه “اليد الخفية”.

2- دعا سميث إلى احترام الملكية الخاصة وإطلاق العنان للحربة الفردية، لأنها تشكل حافزا للإنتاج والمنافسة التي تؤدي بالنتيجة للمنتج الجيد والسعر المنافس، وهذا يصب في مصلحة المستهلك ويعزز من دورة رأس المال.

3- حق الإنسان في اختيار نوع العمل الذي يناسبه والابتعاد عن خطط الإلزام في قطاعات عمل معينة.

4- حق شراء المتتجات من أي مصدر لأن ذلك يخلق توازنا في السوق.

وقد حصر سميث دور الدولة في المجال الاقتصادي بما يلي:

1- دور الدولة التنظيمي ويقتصر على وضع التشريعات والضرائب وتنظيم الأطر العامة وحماية الحريات الشخصية ومنع الاحتكار.

2- تهيئة البنية التحتية للاستثمار من قبيل شق الطرق وإشادة المرافئ لتقديم أفصل خدمات لدورة اقتصادية فاعلة ومنتجة.

3- دعا سميث إلى فرض ضرائب عالية على الذين لا يستثمرون في قطاعات الإنتاج وتخفيفها عن المستثمرين في الإنتاج.

4- أن يتم استثمار المبالغ المتحصلة من الضرائب على التعليم والصحة لبناء كوادر قادرة على رفد العملية الإنتاجية.

5- تفعيل اللامركزية الإدارية والاقتصادية، بحيث لا تتركز القرارات في العواصم، ولا يتركز الإنتاج في المدن الكبرى فقط لجهة خلق توازن في عملية التنمية بين الأقاليم، ما يحقق درجة عالية من العدالة الاجتماعية.

6- دعا سميث إلى تقدير ومكافأة اصحاب رؤوس الأموال المنتجة الذين يقدمون خدمات مجانية للمجتمع من قبيل بناء المستشفيات والمدارس وملاجئ للعجزة، ولا مشكلة أن أطلقت أسماؤهم على تلك المرافق لأنه في عملهم هذا بعد أخلاقي وإنساني.

ومن منظور الرؤية الاقتصادية لـ سميث، وبحكم الظروف الصعبة والقاسية التي تعيشها بعض الدول، ومنها بلادنا، وفي ظل حصار جائر واستنزاف للموارد واقتصاد حرب وتراجع مصادر الموازنات.. ترى، هل من إمكانية لهذه الدول للاستفادة من أفكار سميث لإنعاش اقتصادياتها والنهوض بها كحالة إسعافية لها طابع الراهنية والضرورة؟

من وجهة نظرنا أن بعض الأفكار التي طرحها آدم سميث تشكل أساساً صالحاً لعملية اقتصادية ناجعة من قبيل اللامركزية الاقتصادية القائمة على التنمية المتوازنة بين المناطق، بحيث تتركز مشاريع التنمية على مساحة البلاد أخذا في الاعتبار واقع كل منطقة، مع مراعاة حقيقة أن الإنتاج الزراعي والحيواني هما الأساس لنهضة اقتصادية، إضافة إلى تركيز الاستثمار الخاص على هذه القطاعات لجهة تدوير عملية الإنتاج على قاعدة “تقسيم العمل”، التي أشار اليها سميث، بحيث تتوزع مراحل الإنتاج على جهات استثمارية عديدة، وبشكل أفقي يصيب كامل مساحة البلاد؛ والأخذ بفكرة السياسة الضريبية القائمة على منح تخفيضات للمستمرين الذين يوظفون رأسمالهم في القطاعات الإنتاجية وليس المضاربات العقارية والعمل التجاري السلعي القائم على استيراد السلع والبضائع والكماليات، إلى جانب تشجيع المستثمرين ورجال الأعمال الذين يقومون بدور إيجابي في النشاط في قطاع الخدمات، سواء إشادة المستشفيات والمدارس ومساعدة الأسر الفقيرة في سبل عيشها، ولاسيما أسر الشهداء والمحتاجين، إضافة إلى المساهمة الفاعلة في عملية إعادة بناء ما دمرته الحرب بشكل فعال، وذلك بتوظيفات وازنة في هذا المجال الذي يحقق ربحا ماديا واجتماعياً ووطنيا حقيقيا.

إن الاستثمار في الكتلة الحيوية الاقتصادية والبشرية، وحسن توظيف الموارد، وانتهاج سياسة اقتصادية واضحة المعالم والأهداف، يقودها كادر نظيف متخصص، ومحاربة صادقة لكل أشكال الفساد والإفساد، والاعتماد على النموذج الإيجابي الحامل للفكرة والمتمثل لها سلوكا وأداء، هي مقدمات صحيحة لنهج اقتصادي يساهم، إلى حد كبير، في تجاوز الكثير من الأزمات التي يعاني منها اقتصاد البلاد والوضع المعيشي الآخذ في التراجع بسبب حالة الحرب والاستنزاف والحصار التي واجهناها – وما زلنا – خلال السنوات التسع الماضية.