أمريكا لم تعد “أولاً”
هناء شروف
على مدى السنوات الأخيرة، أصبحت الولايات المتحدة، التي تبنّت سياسة خارجية “أمريكا أولاً”، ولجأت إلى الأحادية السياسية، والحمائية التجارية، أكبر عقبة أمام عالم مفتوح.
لم تشنّ الولايات المتحدة، فقط حرباً تجارية ضد الصين، ولم تفرض رسوماً جمركية إضافية على الدول الغربية الأخرى، ولكنها قدّمت أيضاً سلسلة من السياسات لحماية الصناعات في الداخل. لقد أضرّت هذه التحركات الأنانية بشكل خطير بالعلاقات الاقتصادية، والتجارية بين الاقتصادات الكبرى، وغذّت النزعة المحافظة والشعبوية في جميع أنحاء العالم.
كما دفعت الولايات المتحدة لإنشاء تكتلات حصرية، مثل تحالفات الرقائق، وسلسلة التوريد، و”الإطار الاقتصادي الهندي والمحيط الهادئ من أجل الرخاء”، ما أدى إلى تجزئة التجارة العالمية بشكل متزايد، وقطع العلاقات الاقتصادية بين البلدان، وإضعاف العلاقات العالمية والثقة في الانفتاح.
كذلك تعدّ الأحادية للولايات المتحدة عقبة رئيسية أمام الحوكمة، والتعاون العالميين، وهي التي أعاقت الانتعاش الاقتصادي العالمي، والجهود المبذولة لتشكيل تحالف عالمي في مكافحة جائحة كوفيد-19، وتغيّر المناخ.
وعليه، فإن السياسات الخارجية الأنانية للولايات المتحدة هي نتيجة تعديل كبير في الإستراتيجية الوطنية للبلاد، والتي لها جذورها في التغيّرات المتتالية في المشهد الدولي غير المرئي منذ قرن من الزمان، ونتيجة عقلية الهيمنة طويلة الأمد لواشنطن. لذلك فإن صعود الشرق، والسقوط النسبي للغرب هو السمة المميزة للعصر، وأيضاً اتجاه تاريخي لا رجوع فيه، لكن الولايات المتحدة العازمة على التمسك بمكانتها المهيمنة تعارض مع اتجاه العالم، وتختار العزلة والانقسام، والمواجهة، مما يدلّ على عقلية الحرب الباردة وتفكيرها المهيمن.
مع تقدم العولمة والتجارة الحرة والأسواق المفتوحة، لوحظ تراجع التصنيع في بعض الدول الغربية، وما ترتب على ذلك من تنمية غير متوازنة بين البلدان، وفجوات الثروة بين مختلف الطبقات الاجتماعية داخل البلدان، وهو الأمر الذي غذّى الحمائية والشعبوية والمشاعر المناهضة للعولمة.
ووفقاً لتقرير الانفتاح العالمي 2022 الصادر في منتدى “هونغكياو” الاقتصادي الدولي الخامس في شنغهاي، يستمر مستوى الانفتاح العالمي في الانخفاض، وهذا مخالف لاتجاه العصر، ويتعارض مع مصالح الناس في جميع أنحاء العالم.
كما أظهر التقرير أنه منذ أن حرّضت الولايات المتحدة حربها التجارية على الصين في عام 2018، شهدت البلاد أكبر انخفاض سنوي لها في مؤشر الانفتاح، حيث انخفض ترتيبها العالمي بمقدار تسعة مراكز.
وبحسب التقرير، في حين انخفض مستوى الانفتاح في العديد من الدول المتقدمة بشكل ملحوظ، فإن مؤشر الانفتاح في العالم النامي آخذ في الارتفاع، ولكن بما أن الدول المتقدمة تلعب دوراً أكبر في الاقتصاد العالمي، فقد أدى تراجع مؤشر الانفتاح إلى انخفاض المستوى العام للانفتاح في العالم.
من بين الاقتصادات المتقدمة، شهدت الولايات المتحدة، التي تمثل ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أكبر انخفاض، حيث تراجع ترتيبها العالمي من الأول في عام 2008 إلى المرتبة 23 في عام 2020، وخلال هذه الفترة لم تشهد الاقتصادات في بقية الدول العشر الكبرى تغيّرات ملحوظة في مؤشر الانفتاح.
الانفتاح مدفوع بتطور التجارة، وله أساسه النظري في المبادلات، وتقسيم العمل، والمزايا النسبية، وقد أثبت التاريخ أن الانفتاح ضروري لبلد ما لكي يزدهر، وهو الطريق الحتمي لتطور التاريخ البشري، كما أنه بمثابة قوة دافعة رئيسية لتقدم الحضارات. ونظراً لأن العالم في خضم تغييرات كبرى لم يشهدها منذ قرن من الزمان، ويواجه رياحاً معاكسة قوية مناهضة للعولمة، فقد حان الوقت للدول لبناء توافق في الآراء، والالتزام بالانفتاح، والتعاون المربح للجانبين، والاستجابة المشتركة للتحديات والصعوبات، هذه هي الطريقة الوحيدة لمواصلة العالم المضي قدماً.