فلوبير وموباسان!
حسن حميد
ها أنذا!!
أخرج من تجربة جديدة مع السّرد الأدبي، عشتها مع حوالي خمسة عشر شاباً وشابة، جاؤوا من أجل تعلّم كتابة السّرد الأدبي، وهم ينتمون إلى طبقات وبيئات اجتماعية مختلفة، ومعظمهم خريجو جامعات أو يدرسون فيها. بدت حماستهم لتعلّم كتابة السرد كبيرة، فهم لا يريدون معرفة أيّ شيء عن الأجناس الأدبية الأخرى، لهذا فهم يسألون عن الموضوعات الأثيرة للرواية، وعن حجمها، وعن طريقة كتابتها، ومتى تغدو الرواية مميزة، ومن يقرر أهميتها! وقد رأيت وأدركت أيضاً أنّ الجميع يحملون أفكاراً وأوهاماً وآراء غريبة وعجيبة تدور حول الرواية، فهم يعتقدون أنّ كلّ رواية فائزة بجائزة أدبية، حتى لو كانت جائزة لمجلة أو صحيفة إلكترونية، هي رواية مهمة وعظيمة، ذلك لأنّ الإعلام شال بها وعوّمها، وأنّ كلّ رواية آتية من الآداب الأجنبية، عبر جسور الترجمة، هي رواية خالدة وعظيمة أيضاً، وأنّ الروايات الصّادرة حديثاً، هي أهمّ الروايات على الإطلاق لأنها أدارت ظهرها لتقاليد الروايات القديمة، وأن لا أهمية للموضوعات، ولا للقضايا، أيّاً كانت مرجعياتها، وأن ليس من تطلّعات الروايات الحديثة أن تقدّم ثقافات تخصّ المجتمعات القريبة والبعيدة معاً، وأن ليس من أحلام الرواية أن تقدّم رأياً في أحداث التاريخ الماضية، أيّ ليس من أحلام الرواية أن تعيد ترتيب الوقائع، أو أن تنقض سرديات لعبت بها العواطف والدعاية والأوهام!
طبعاً لا أدري من أين جمع هؤلاء الشبان مثل هذه الآراء، كما لا أدري ما هي مصادرهم، أهي مستلّة من بطون الكتب، أم من الأحاديث المتناقلة عن الرواية بين المتحمسين لها، أم هي اجتماع للمديح الذي يكال للرواية بين أهل النقد، والنشر، والإبداع، والترجمة!
وبسبب هذه الآراء الحماسية لشبان ورشة تعلّم كتابة الرواية، وقناعتهم بأنّ على الكاتب الروائي الجديد إدارة الظهر لكلّ الكتابات الروائية الماضية، والظنّ بأنّ كلّ سرد ينوف، في حجمه، على مائة صفحة، هو رواية! كان عليّ، أن أبدأ مع هؤلاء الشبان، بالأساسيات الأولى من التعاريف، وتحديد صورة الأدب، والوقوف على معاني السّرد، وتشكيل قناعة بأنّ ليس كلّ ما يلمع، في هذه الآونة، هو الثمين والكريم، وأنّ الإبداع لا يخصّ زمناً بعينه، وألا ننساق وراء عواصف الدعاية، وحمّى الجوائز، ورميات النقّاد التي لا تخلو من عاطفة أو ميلان أو انحناء تجاه رواية دون أخرى، وعليهم جميعاً أن يعلموا ويدركوا بأنّ كتابة الرواية لا تعلّم، لأنّ الرواية ليست مهنة، ولا تمارين حسابية، أو تربية عضلات، وأنّ ورش تعلّم كتابة الرواية تفيد في التثقيف الروائي حين ينصب الحديث على الرواية، والأدب، والتقنيات الفنية، ومعرفة ما تستبطنه النصوص الروائية من مكوّنات، وأنّ مثل هذه الدورات لا تخرّج روائيين، لأنّ جملة من العوامل هي التي تكتبُ الروايةَ الناجحة، لعل في طالعها الموهبة والثقافة والشغف والتجربة؛ ولعل الثقافة هي أهم عنصر في هذه العوامل، لأنّ الموهبة بحاجة إلى الثقافة، والشغف بحاجة إلى الثقافة، والتجربة لا تعلو إلا بالثقافة! والأعجب بالنسبة إليّ، هو أنّ هؤلاء الشبّان، ما كان يهمّهم التمييز بين تجربة روائية معروفة لكاتب روائي، وبين تجربة روائية معروفة لكاتب روائي آخر، أيّ ما كانت تهمهم معرفة أسباب شهرة كاتب يكتب عن (النوافل والهوامش)، وكاتب يكتب عن الأوطان التي ظلمتها اليد الاستعمارية الشدود الرّاشحة دماً حيناً، والتي تغلق مصاريع أبواب السجون على الأبرياء حيناً آخر. لقد أحسست بالتداخل والمماهاة بين الألوان وظلالها، والأحلام الرجيمة والنبيلة، وعدم التفريق ما بين الوهم والواقع، وما بين الجحيم والفردوس، والقول صراحة، وبتجرّؤ، إن الرواية الناجحة هي الرواية المتفلّتة من الروح الفني ، أو مساهرة للأسلوب واللغة أو الوعي بأنساق الرواية ودلالاتها!
بلى، كانت تجربتي في هذا المجال، تجربة لم تخل من الارتباك، لقناعتي بأن البناء الجديد، أسهل ألف مرّة، من إعادة البناء على أوهام ملفّقة، لهذا قال فلوبير لـ موباسان حين جاء إليه ليتعلّم منه كتابة السّرد، أنا لا أعلّم كتابة السرد، ولا أستطيع ، أنت عليك أن تتبع حواسك وموهبتك وثقافتك وخبرتك، فهذه وحدها من سيعلمك كتابة السّرد.
Hasanhamid55@yahoo.com