الحرب على الزراعة.. خطة تجويعية هدفها الربح المالي لمديري الثروات
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
بدأ خلال الأسابيع الماضية هجوم شامل ومنسق على الزراعة، و في هذا السياق يعتبر الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين في بالي، ومؤتمر “كوب27” للتغير المناخي، ومنتدى دافوس الاقتصادي العالمي، وبيل غيتس متورطون في هذا الهجوم، إذ عادةً ما يستخدمون تأطيراً لغوياً بائساً للإيهام بأنهم على ما يرام عندما يقومون بتطوير أجندة من شأنها أن تؤدي إلى المجاعة والموت لمئات الملايين إن لم يكن المليارات إذا سُمح لهم بالمضي قدماً مدفوعين بتحالف المال.
في 13 تشرين الثاني الماضي، اتفق ممثلو مجموعة العشرين الاقتصادية -تجمع دول العالم المؤثرة والفاعلة في الاقتصاديات- بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي -على الرغم من أنه ليس دولة- وألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية، والعديد من الدول النامية بما في ذلك الصين والهند، اندونيسيا والبرازيل،على البيان الختامي.
وكان البند الرئيسي الأول هو “الدعوة إلى تحول سريع نحو أنظمة غذائية وسلاسل إمداد مستدامة ومرنة، والعمل معاً لإنتاج الغذاء وتوزيعه بشكل مستدام، وضمان مساهمة النظم الغذائية بشكل أفضل في التكيف مع تغير المناخ، والتخفيف من حدته، ووقف فقدان التنوع البيولوجي وعكس مساره، وتنويع مصادر الغذاء”.
كما دعوا إضافة إلى ذلك، إلى تجارة زراعية شاملة، وقابلة للتنبؤ غير تمييزية قائمة على القواعد تستند إلى قواعد منظمة التجارة العالمية، كما أعربوا عن التزامهم بدعم تبني الممارسات والتقنيات المبتكرة، بما في ذلك الابتكار الرقمي في الزراعة وأنظمة الغذاء لتعزيز الإنتاجية والاستدامة في انسجام مع الطبيعة. ومن ثم ظهرت بياناتهم المتناقضة بالقول: “نعيد تأكيد التزامنا بتحقيق صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من أجل تحقيق الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن أو بالقرب منه”. فالزراعة المستدامة، مع صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، هي لغة أورويلية مزدوجة، فبالنسبة لغريب في علم اللغة في الأمم المتحدة، تبدو الكلمات جيدة جداً، لكن ما يتم الترويج له في الواقع هو أكثر تدمير جذري للزراعة على مستوى العالم تحت اسم “الزراعة المستدامة”.
بعد مؤتمر “مجموعة العشرين” في بالي بأيام فقط كانت القمة السنوية للأمم المتحدة “كوب 27” للأجندة الخضراء في مصر، وهناك، قام المشاركون من معظم دول الأمم المتحدة جنباً إلى جنب مع منظمات غير حكومية مثل”منظمة السلام الأخضر، ومئات من المنظمات غير الحكومية الخضراء الأخرى بصياغة دعوة ثانية، حيث أطلق مجتمعو “كوب 27” مبادرة جديدة للأغذية والزراعة من أجل التحول المستدام تعرف باسم “فاست”، لتحسين كمية ونوعية مساهمات تمويل المناخ لتحويل الزراعة والأنظمة الغذائية بحلول العام 2030.
وبحسب مجلة “فوربس”، ستشجع مبادرة “فاست” التحول نحو أنظمة غذائية صحية مستدامة قادرة على مواجهة آثار تغير المناخ، ومن شأنها أن تساعد في تقليل تكاليف الصحة، وتغير المناخ بما يصل إلى 1.3 تريليون دولار أمريكي مع دعم الأمن الغذائي في مواجهة تغير المناخ، لكن ما وراء هذه الكلمات؟ إنها أموال طائلة.
المعيار الذهبي
وفقاً لحديث منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ” الفاو” خلال مؤتمر”كوب 27″ ستطلق منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” في غضون عام مخطط “المعيار الذهبي” لتقليل ما يسمى بغازات الاحتباس الحراري من الزراعة.
ليس من المستغرب أن يأتي الدافع وراء هذه الحرب على الزراعة بشكل مفاجئ من الأموال الطائلة، لمبادرة “إف أيه أي أر أر” ، وهي شبكة تحالف المستثمرين الدوليين ومقرها في المملكة المتحدة، والتي تركز على المخاطر والفرص المادية للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في قطاع الغذاء العالمي.
يشمل أعضاؤها اللاعبين الأكثر نفوذاً في التمويل العالمي بما في ذلك شركة “بلاك روك”، و”جي بي مورغان لإدارة الأصول”، و” أليانز إيه جي” في ألمانيا، وشركة “سويس آر إي” السويسرية لإعادة التأمين، و مصرف “اتش اس بي سي”، ومؤسسة الاستثمار “فيداليتي انفستمنت”، و”إدموند دي روتشيلد” لإدارة الأصول، و مصرف “كريدي سويس”، و”روكفلر لإدارة الأصول”، و”بنك الاستثمار “يو بي إس”، والعديد من البنوك الأخرى، وصناديق التقاعد التي يبلغ إجمالي أصولها الخاضعة للإدارة 25 تريليون دولار، وهم يشنون الآن الحرب على الزراعة كما هو الحال مع الطاقة. وفي هذا السياق قال نائب مدير سياسات تغير المناخ في الأمم المتحدة، زيتوني أولد دادا، خلال مؤتمر الأطراف “كوب 27”: “لم يكن هناك هذا القدر من الاهتمام بالأغذية والزراعة في أي وقت من قبل”.
تدعي مبادرة “إف أيه أي أر أر” دون أي دليل أن إنتاج الغذاء يمثل حوالي ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، ويشكل التهديد الرئيسي لـ 86٪ من الأنواع المعرضة لخطر الانقراض في العالم، في حين أن تربية الماشية مسؤولة عن ثلاثة أرباع خسارة غابات الأمازون المطرية.
تخطط منظمة “الفاو” لاقتراح خفض كبير في الإنتاج الحيواني العالمي، وخاصة الماشية، والتي تدعي شبكة إف أيه أي أر أر” أنها مسؤولة عن ما يقرب من ثلث انبعاثات الميثان العالمية المرتبطة بالنشاط البشري، والتي يتم إنطلاقها من السماد الطبيعي وزراعة المحاصيل العلفية. بالنسبة لهم، فإن أفضل طريقة لوقف ذلك هو القضاء على الماشية.
الزراعة المستدامة غير مستدامة
إن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” على وشك إصدار خارطة طريق للحد بشكل كبير مما يسمى بغازات الاحتباس الحراري من الزراعة العالمية، متذرعة بادعائها الكاذب “بالزراعة المستدامة” التي يقودها أكبر مديري الثروات في العالم بما في ذلك” بلاك روك”، و”جي بي مورغان” لإدارة الأصول، و شركة ” أكسا”، وهي بعضاً من أكثر المؤسسات المالية فساداً على هذا الكوكب، فهم لا يضعون بنساً واحداً أبداً إلا إذا كانوا يضمنون أنهم سيجنون أرباحاً هائلة من وراءه، كما أن الحرب على الزراعة هي هدفهم التالي.
تم اختراع مصطلح “مستدام” بواسطة ديفيد روكفل الملياردير والمصرفي الأمريكي، والذي أسس ” نادي روما” -أحد تجليات المالتوسية – وهو مركز أبحاث يهتم بمختلف القضايا السياسية والدولية. تكون في البداية من مجموعة دولية صغيرة من الأشخاص في مختلف المجالات الأكاديمية، والمجتمع المدني، والدبلوماسي، والصناعي. جادل أعضاء نادي روما في تقريرهم لعام 1974 البشرية عند نقطة التحول” ، بما يلي: “لا يمكن للدول أن تكون مترابطة دون أن يتنازل كل منهم عن بعض، أو على الأقل يعترف بحدود استقلاله. لقد حان الوقت الآن لوضع خطة رئيسية للنمو العضوي المستدام، والتنمية العالمية على أساس التخصيص العالمي لجميع الموارد المحدودة ونظام اقتصادي عالمي جديد”. كانت تلك هي الصياغة المبكرة لجدول أعمال الأمم المتحدة للقرن 21، وجدول أعمال عام 2020، وإعادة التعيين الكبرى في دافوس لعام 2020.
يذكر أنه في عام 2015، تبنت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ما يسمى أهداف التنمية المستدامة 17 هدفاً لتحويل عالمنا، حيث كان الهدف 2 هو القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي والتغذية المحسنة وتعزيز الزراعة المستدامة.
من خلال قراءة مقترحات كل من”كوب27″، و”مجموعة العشرين”، ومنتدى دافوس الاقتصادي العالمي بشكل مفصل، نجد ما تعنيه هذه الكلمات الطنانة الرنانة اللطيفة، فالعالم غارق الآن في الادعاءات التي لم يتُم التحقق منها من قبل العديد من المؤسسات الفكرية الممولة من القطاع الخاص والحكومي بأن الأنظمة الزراعية هي سبب رئيسي للاحتباس الحراري، و ليس فقط ثاني أكسيد الكربون، بل الميثان والنيتروجين أيضاً. ومع ذلك، فإن الحجة العالمية لغازات الاحتباس الحراري بأن كوكبنا على شفا كارثة لا رجعة فيها إذا لم نغير انبعاثاتنا بشكل جذري بحلول عام 2030 هو هراء لا يمكن التحقق منه، ومع ذلك تصر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة على أنه إذا لم نوقف ارتفاع درجة الحرارة العالمية بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستوى 1850، فبحلول عام 2050 سينتهي العالم بشكل أساسي.
الحرب بدأت للتو
تعاونت الأمم المتحدة، ومنتدى دافوس الاقتصادي العالمي في عام 2019 للنهوض بشكل مشترك بأجندة أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030. فعلى موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، تم الاعتراف بذلك علناً على أنه يعني التخلص من مصادر بروتين اللحوم، وتقديم الترويج للحوم المزيفة غير المثبتة، والدعوة إلى البروتين البديل لتحل محل الدجاج أو اللحم البقري.
كان النقاش في “كوب 27” حول الأنظمة الغذائية التي يمكن أن تظل ضمن حدود الكوكب، بما في ذلك خفض استهلاك اللحوم، وتطوير البدائل، وتحفيز التحول نحو المزيد من النباتات والمحاصيل والحبوب المحلية، وبالتالي تقليل الاعتماد الحالي على القمح والذرة والأرز والبطاطا.
يروج المنتدى الاقتصادي العالمي للتحول من حمية بروتين اللحوم إلى النظام الغذائي النباتي بحجة أنه سيكون أكثر “استدامة”، وكذلك الترويج لبدائل لحوم المختبر- لحم مأخوذ من خلايا حيوانية يتم استنباته في المختبر بدلاً من أخذه من اللحوم المذبوحة، وهو أحد أشكال الزراعة الخلوية- مثل استثمارات بيل غيتس في شركة ” الأطعمة المستحيلة” دون استخدام أية منتجات حيوانية على الإطلاق، والذي تشير الاختبارات الخاصة بهيئة إدارة الأغذية والعقاقير إلى أنه مادة مسرطنة محتملة، حيث يتم إنتاجه مع فول الصويا المعدّل وراثياً، وغيره من المنتجات المشبعة بالغليفوسات. كما ويروج المنتدى الاقتصادي العالمي أيضاً لبدائل بروتين الحشرات للحوم.
لقد أصبحت الحرب على تربية الحيوانات من أجل اللحوم خطيرة للغاية، وفي هذا الخصوص عينت حكومة هولندا، والتي يعتبر رئيس وزرائها مارك روت أحد المساهمين في جدول أعمال المنتدى الاقتصادي العالم ، وعمل سابقاً في شركة يونيليفر، وزيراً خاصاً للبيئة والنيتروجين، يدعى كريستيان فان دير وال. أما في ألمانيا، فتقول جمعية صناعة اللحوم الألمانية “في دي إيه” إن ألمانيا ستواجه نقصاً في اللحوم خلال الأشهر الأربعة إلى الستة المقبلة، وسترتفع الأسعار بشكل كبير، وترجع مشكلات إمدادات اللحوم إلى إصرار برلين على تقليل أعداد الماشية بنسبة 50٪ للحد من انبعاثات الاحتباس الحراري.
وفي كندا، تخطط حكومة ترودو، وهو منتج آخر من منتجات دافوس الاقتصادي لخفض الانبعاثات من الأسمدة بنسبة 30 في المائة بحلول عام 2030 كجزء من خطة للوصول إلى صافي الصفر في العقود الثلاثة المقبلة، لكن المزارعين يقولون إنه لتحقيق ذلك، قد يضطرون إلى تقليص إنتاج الحبوب بشكل كبير.
وفي سياق متصل حظر رئيس سريلانكا استيراد الأسمدة النيتروجينية في نيسان 2021 في محاولة وحشية للعودة إلى ماضي الزراعة “المستدامة”، وأدى ذلك إلى انهيار المحاصيل خلال سبعة أشهر، وأجبرته المجاعة والاحتجاجات على الفرار من البلاد.
يضاف إلى كل ذلك القرار السياسي الكارثي للاتحاد الأوروبي بحظر الغاز الطبيعي الروسي المستخدم في صناعة الأسمدة القائمة على النيتروجين، الأمر الذي أدى إلى إغلاق مصانع الأسمدة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وبالتالي إلى انخفاض عالمي في غلات المحاصيل، وكذلك موجة إنفلونزا الطيور المزيفة التي جعلت المزارعين في جميع أنحاء أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي يقومون بقتل عشرات الملايين من الدجاج والديوك الرومية.
لقد بات من الواضح أن عالمنا يواجه أزمة غذائية غير مسبوقة، وكل هذا من أجل تغير المناخ.