الرابحون والخاسرون من تعديلات سعر الصرف؟ هل من قرارات تُعوّض الخاسرين، أم سيبقون ضحايا لأنهم الحلقة الأضعف؟
البعث الأسبوعية – علي عبود
انخفض سعر صرف الليرة خلال أقل من عامين من 1256 ليرة إلى 4522 ليرة للدولار أي بنسبة 260 % أو3.6 أضعاف قيمته خلال فترة قياسية جداً.
وإذا قارنا الوضع في سورية مع دول مستقرة كمصر، أو شهدت اضطرابات محدودة مثل لبنان والأردن، فإن انخفاض سعر صرف الليرة بعد حرب إرهابية على سورية لا تزال مستمرة منذ عام 2011، واحتلال أمريكي لمنابع الثروات النفطية والزراعية.. فإن حجم انخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية لا يزال مقبولا رغم العقوبات والحصار الاقتصادي!
وبما أن أي قرار اقتصادي يؤدي إلى خسائر لعدد من الفعاليات، وإلى أرباح لفعاليات أخرى فإن السؤال الذي نادراً جداً ما يطرحه المهتمون بالشأن الاقتصادي هو: من الرابحين ومن الخاسرين من قرارات تعديل سعر صرف الليرة أمام الدولار؟
والسؤال الأهم: هل من قرارات حكومية تُعوّض الخاسرين، أم سيبقون ضحايا لأنهم الحلقة الأضعف في المجتمع؟
الخاسر الأول والأضعف
أول الخاسرين هم العاملون بأجر، بل هم الحلقة الأضعف التي لا تملك أي وسيلة دفاع لمواجهة أي تعديل لسعر الصرف ينجم عنه فوراً انخفاضاً مريعاً في قدرتهم الشرائية!
وإذا استعرضنا المسار المتدرج لتعديل أسعار الصرف منذ عام 2011 وحتى 2/1/2023 نكتشف بسهولة إن القدرة الشرائية لملايين العاملين بأجر تراجعت إلى مستويات لم يعد الحد الأدنى للأجر يكفي لشراء أكثر من سندويشتي فلافل يومياً لأن الزيادات على هذا الحد كانت هزيلة جداً، وأقل بكثير من نسب تخفيض القوة الشرائية لليرة!
ومع أن القوة الفعلية لراتب بدء التعيين انخفضت من 200 دولار في عام 2010 إلى أقل من 30 دولارا مع بداية عام 2023، أي مع سريان آخر تعديل لسعر الصرف.. فإن ما من حكومة خلال الـ 12 عاماً الماضية قامت بتعديل الرواتب والأجور وفق قراراتها بالتخفيضات المتتالية للقوة الشرائية لليرة!
والملفت إن الجهات العامة والخاصة تقوم بتعديل أسعار منتجاتها المصنعة محليا أو المستوردة بعد كل تعديل لسعر الصرف، في حين تستثني الحكومات المتعاقبة حتى تاريخه شريحة العاملين بأجر من تعديل أجورها لتقوى على شراء السلع والخدمات حسب تعديلاتها الجديدة!
وإذا كان وزير التجارة الداخلية أعلن مرارا بأن التاجر لا يمكن أن يخسر أي أن يبيع بأقل من الكلفة، وإذا كانت اللجنة الاقتصادية تطلب من الجهات الحكومية بيع منتجاتها بالأسعار الرائجة، فلماذا رفضت الحكومات المتعاقبة تعديل أجور العاملين مثلما فعلت مع تعديل أسعار منتجات وخدمات القطاعين العام والخاص؟.
ويبقى السؤال: إلى متى سيبقى العامل بأجر الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر من قرارات سعر الصرف؟
الخاسر الثاني: المصدّق للوعود
الخاسر الثاني بعد العامل بأجر هم صغار المدخرين الذين صدقوا وعود الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 بأن سعر صرف الليرة لن يتجاوز 100 أو 200 ليرة، وساندوا الحملات الإعلامية والإعلانية فتهافتوا على المصارف لإيداع مدخراتهم، ولو بكميات متواضعة إلا أنها كما يُقال ( شقى العمر) .. فماذا كانت حصيلة المصدقين للوعود الحكومية؟
إذا أخذنا مثالاً قريباً جداً لمواطن أودع في عام 2020 في أحد المصارف وديعة بمليون ليرة لمدة سنة قابلة للتجديد، ولا يهم هنا نسبة الفائدة على مبلغ المليون ليرة، لأن الخسارة التي لحقت بصاحبها خلال عامين مرعبة بل هي الكارثة بحد ذاتها!!
كان مبلغ المليون ليرة في عام 2020 حسب سعر الصرف أنذاك (1256 ل س) يساوي 796 دولارا، تهاوى بتاريخ 2/1/2023 حسب سعر الصرف الجديد (4522 ل س) إلى 221 دولارا (نعم من 796 دولارا إلى 221 دولارا) فقط!!
السؤال: هل يوجد مصرف في العالم يقوم بتخفيض قيمة الودائع بشكل كارثي على أصحابها إلا إذا أشهر الإفلاس؟
أما بالنسبة إلى المودعين ما قبل عام 2011 ولم يسحبوا مدخراتهم لإيمانهم وثقتهم بوعود الحكومات المتعاقبة فقد تعرضوا فعلياً للإفلاس وكانوا ضحايا الحكومات المتعاقبة، فقيمة وديعة المليون كانت تساوي أكثر من 21 ألف دولار تقزمت إلى مادون 221 دولارا!
وعلى الرغم من الخسائر التي تلحق بصغار المودعين فإن ما من حكومة قررت التعويض عليهم، ولا يبدو أنها ستفعلها في الأمد المنظور!
الخاسر الثالث: صغار المستثمرين
لا يبدو أن الحكومات المتعاقبة أدركت أهمية الطبقة الوسطى كمحرك للنمو، وعمادها العاملون بأجر، وصغار المستثمرين والمنتجين، وتحديدا في القطاعين الزراعي والحرفي، فعملت على تحطيمها سواء إهمالاً أو جهلاً أو الاثنين معاً.
مع كل تعديل لسعر الصرف كانت تتراجع قدرة ملايين الأسر السورية على شراء السلع التي ينتجها صغار المستثمرين كمربي الدواجن ومنتجي الألبان والأجبان، فاضطروا مع غلاء مستلزمات الإنتاج إلى الخروج من السوق لصالح الكبار المقتدرين مالياً!
كما إن آلاف المزارعين الصغار اضطروا أيضا إلى الاستدانة لتأمين مستلزمات الزراعة أولا، ثم هجروها بعد تعرضهم لخسائر فادحة، والإحصائيات المتوفرة حول تراجع نسب الاستهلاك ومعها الإنتاج لكثير من السلع الأساسية، يؤكد إن قرارات سعر الصرف ألحقت الخسائر بصغار المنتجين، دون أن يتلقوا دعما ولا تعويضا من أي جهة حكومية!!
الرابح الأكبر
من الطبيعي أن الحكومة التي تصدر قرارات تخفيض القدرة الشرائية لليرة أن تكون الرابح الأكبر فهي لن تتعرض للخسائر، بل ستعوّضها من جهات أخرى، كالعاملين بأجر، وبالاقتراض من المصارف أي من أموال المودعين بفائدة هزيلة جداً.
إذا اقتصرنا على الحد الأدنى للأجور حالياً (92970 ليرة) فإنه لا يتجاوز 20.5 دولارا مقابل 200 دولار عام 1985، وهذا يؤكد إن الحكومة تربح حالياً من كل عامل 179.5 دولارا شهرياً أي 2154 دولاراً سنوياً، وبالتالي ربحها من إجمالي عمالتها البالغة في الجهات العامة 1563482 عاملاً لا يقل سنويا عن 3367 مليون دولاراً، وهو يساوي حسب آخر سعر صرف (4522 ليرة) مبلغ 15225 مليار ليرة، وهذا المبلغ الذي هو من حق العاملين بأجر وليس من حق الحكومة، هو الذي يسبّب حالة الفقر الشديد وعجز الأسرة عن تأمين احتياجاتها!
الرابح الثاني: القطاع الخاص
من الطبيعي أن ينافس القطاع الخاص الحكومة بشفط الأرباح التي يشفطها مع كل تعديل لسعر الصرف سواء من تخفيض أجور العمالة، أم بالتسعير وفق الدولار الأسود حينا، وبذريعة شراء المحروقات من السوق السوداء في أغلب الأحيان!
وفي باب العمالة لوحدها يربح القطاع الخاص المليارات جراء تخفيض القدرة الشرائية لليرة، لأن عمالته أكبر حجما فهي تبلغ 2135217 عاملا فربحه السنوي من عمالته لا يقل عن 4600 مليون دولار أي بحدود 21 مليار ليرة بالسعر الرسمي، وبما أن القطاع الخاص يُسعّر بالسعر الأسود فإن ما يربحه فعليا من عمالته لا يقل عن 30 مليار ليرة سنوياً!
بعد هذه الأرقام بالغة الدلالة سنكتشف بسهولة أن سبب ارتفاع نسب الفقر في سورية وعجز ملايين الأسر عن تأمين احتياجاتها ليس سببه ارتفاع الأسعار ولا تراجع القدرة الشرائية لليرة، وإنما قيام كل من الحكومة والقطاع الخاص بشفط دوري للرواتب مع كل تعديل لسعر الصرف
الرابح الثالث: المقترضون
نعم، كبار الرابحين أيضا من قرارات تعديل سعر الصرف، هم كبار المقترضين سواء كانوا المصارف بقيام مؤسسيها بالاقتراض منها أم كبار التجار ورجال المال بالاقتراض من المصارف الحكومية.
فبالنسبة للصناعي أو التاجر الذي اقترض مليار ليرة مثلا في عام 2020 انخفضت قوتها الشرائية من 796 ألف دولار إلى 221 ألف دولار، ولا نستبعد أن اغلب المقترضين حولوها إلى دولارات، أو استثمروها في مجالات إنتاجية استفادوا من قيمتها العالية بتاريخ استحرارها ليسددوها لاحقاً بقيمة أقل بكثير!
وما ينطبق على المصارف والمقترضين ينطبق أيضا على الحكومة فهي مثلاً عندما طرحت سندات خزينة بقيمة 148.5 مليار ليرة عام 2020 اشترتها 7 مصارف، كان سعر الصرف بـ 1256 ليرة، أي المبلغ كان يساوي بحدود 118 مليون دولار انخفض بعد تعديل سعر الصرف الأخير (4522 ليرة) إلى أقل من 33 مليون دولار، وبالتالي فوزارة المالية هي الرابح من سندات الخزينة لأنها ستسددها لاحقاً للمصارف بقيمة أقل بكثير من قوتها الشرائية في عام 2020!!