نوري رحيباني.. خسارة كبيرة للموسيقا العربية والعالمية
أمينة عباس
خسرت الساحة الموسيقية السورية والعالمية مؤخراً المايسترو نوري رحيباني بعد مسيرة غنيّة وحافلة بالإنجازات الموسيقية، وهو الذي اعتاد على زيارة بلده وإقامة الحفلات فيها رغم إقامته في ألمانيا. وكانت دار الأوبرا السورية قد كرّمته، عام 2019، عن مجمل أعماله الموسيقيّة، بمناسبة بلوغه الثمانين بإحياء أمسية موسيقيّة مع الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة السوريّة، وقد ضمّ برنامج الأمسية حينها عدداً من المقطوعات المؤلّفة من قبله ومجموعة من الأغنيات المعروفة في تاريخ الأغنية العربيّة قام بتوزيعها أوركسترالياً.
هواية موسيقية جارفة
تعلّق نوري رحيباني بالموسيقا منذ صغره، حيث كانت والدته عازفة بيانو في عشرينيات القرن الماضي، أما والده فقد كان يستقدم فرقة إذاعة دمشق إلى بيته بقيادة رفيق شكري لتعزف حتى ساعات الصباح الأولى. يقول رحيباني في أحد حواراته: “كان والدي متفهماً لميولي الموسيقية، فساعدني وشجعني، إلا أن والدتي عارضت لأنها كانت تتمنى أن أخلف والدي في المحاماة، لكنها سرعان ما رضخت لأن هوايتي الموسيقية كانت جارفة”.
في فرقة مدرسة التجهيز، التي كان يقودها الراحل مصطفى الصواف، تعلم رحيباني بدايةً العزف على الماندولين، وكان حلمه أن يصبح موسيقياً شهيراً، فكان يحرص على حضور الحفلات الموسيقية، وحين نال الشهادة الثانوية درس في كلية الحقوق لعدم وجود معهد عالٍ للموسيقا، ثم حينها انضم عازفاً على البيانو إلى فرقة الجامعة التي كان يقودها ياسر المالح، وكانت تضمّ دريد لحام الذي كان يعزف على الأكورديون قبل أن يدخل عالم التمثيل. وفي ذلك الوقت، أعلنَت وزارة المعارف (التربية حالياً) عن منحٍ دراسية إلى مصر لدراسة الموسيقا، فتقدّم إليها وحاز على المرتبة الأولى، غير أن هذه المنحة لم ترضِ طموحه، إلى أن شاءت الظروف أن يتوجّه إلى ألمانيا بمنحة دراسية لدراسة التلحين على البيانو في المعهد العالي للموسيقا في مدينة لايبزغ.
ولكن شغفه كان قيادة الأوركسترا، فكان يحضر الحفلات الموسيقية يومياً ليراقب حركات المايسترو. وبعد إنهائه دراسته الموسيقية، انضم إلى دار الأوبرا في مدينة فرايبورغك كعازف بيانو ومرافق للكورال وقائد مساعد، وحين مرض قائد الأوركسترا في الليلة التي سيقام فيها حفل لأوبريت كاريولين لكوريات لاجاك وين باخ، عرضت عليه مديرة الدار أن يحلّ محله، فوافق على الفور ونجح الحفل نجاحاً منقطع النظير، وكان من نتائجه أنه حصل على منحة لقيادة أوركسترا الأوبرا، وهذا لم يحصل إلا معه، ومع توسكايني قبله في الأرجنتين الذي قاد الأوركسترا فوراً. وبعد نجاحاته كان عليه الخروج من ألمانيا والعودة إلى سورية خلال أسبوعين، وبمساعدة صديق مقيم في سورية تابع دراسة قيادة الأوركسترا في دريسدن، وحصل على الدبلوم عام 1972، وعيّن قائد الأوركسترا الأول في مدينة درانسباخ، وأثناء هذه المرحلة شارك في العديد من ورشات العمل العالمية عند قادة أوركسترا مشهورين مثل ايغور ماركيفتش وآرفيد يانسون وكورت مازور.
تحقيق الحلم
يصف نوري رحيباني حاله عندما صار في ألمانيا بقوله: “كنتُ كسمكة أُخرِجَت من مياه بركة ورُميت في البحر، حيث أُتيح لي حينها أن أسمع بيتهوفن من الراديو، وشوبرت في الطريق، وانتقلت إلى جوّ كلّه موسيقا، وكان هذا ما أصبو إليه ويحقق حلمي.. وفي تلك المرحلة قلدتُ الموسيقا الغربية التي أدرسها، لكن الملحن الألماني الشهير زيغريد نصحني قائلاً: لا تقلدني، بل خذ من تراث بلدك، فكانت نصيحته رفيقتي في حياتي، وعملتُ بالنصيحة ورحتُ أعرض الروح الشرقية في العزف على البيانو، ولم تكن العملية سهلة، لكنني لم أستسلم، وبالمثابرة نجحت”.
التقى نوري رحيباني بكارل أورف، عام 1980، وهو الموسيقي الذي تأثّر رحيباني في صباه بمقطوعته “كارمينا بورانا”، وتعاون معه على إعادة توزيع بعض ألحانه، لكن القدر لم يحالفه كي يستمر التعاون معه طويلاً، إذ توفي الملحن الألماني الشهير.
أسّس رحيباني، عام 1980، فرقة للموسيقا الإيقاعية “الطبل الناري” في معهد الموسيقا في مدينة لوشوفي في ألمانيا، والتي أصبحت بعد وقت قصير الشعار الموسيقي للمنطقة التي كان يقطنها، وفي العام 2011 ولأول مرة قدم حفلاً للموسيقا الإيقاعية في دمشق بالاشتراك مع سيمون مريش وعازفي الإيقاع في الفرقة السيمفونية.
المدن الميتة
استدعي رحيباني عام 2001 لقيادة الفرقة السيمفونية، ولم ينقطع عنها حتى وفاته، حيث أحيا عدداً من الحفلات في سورية خلال سنوات الحرب. وفي العام 2005، قام بورشة عمل مع الفرقة السيمفونية الوطنية توّجت بحفل في دار الأوبرا، كما قدم في العام 2011 مع الفرقة السمفونية الوطنية السورية الملحمة الموسيقية الشهيرة “كارمينا بورانا” في دار الأوبرا، في حين قدم ملحمته الموسيقية “المدن الميتة” في ألمانيا عام 2017 وهي التي ضمت مقطوعات جسدت تعاقب التاريخ على المدن المنسية من النشوء فالازدهار ثم الاندثار مروراً بالحروب التي تعرضت لها وصولاً إلى الإرهاب الذي طال أوابدها الضاربة في القدم.
الألحان الفولكلورية أوركسترالياً
استعمل نوري رحيباني العديد من الألحان الفولكلورية العربية، وطوّرها بشكل سيمفوني، وقدمها في حفلات عدة أمام الجمهور الألماني، كذلك أعاد توزيع بعض الأغنيات العربية بشكل أوركسترالي ضخم عندما قاد الأوركسترا السورية في عدة حفلات له في سورية، ومن بينها أغنيات تراثية وشعبية سورية، إضافةً إلى أغانٍ لأسمهان وفريد الأطرش. وقد سبق لرحيباني أن أسهم في كتابة الموسيقا التصويرية للعديد من الأعمال الفنية السورية، منها مسرحية “يوميات مجنون” لفواز الساجر، وفيلم “الأبطال يولدون مرتين” لصلاح دهني.
نوري رحيباني
أبصر النور في الحسكة عام 1939، ومنحه الرئيس الألماني هورستكوهلر وسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى، وذلك تقديراً لإبداعه في مجال الموسيقا وقيادة الأوركسترا في ألمانيا والعالم، وحاز على وسام صداقة الشعوب الفضي عام 1973 في برلين، ونال عام 2019 الميداليّة الذهبيّة في مدينة لوشو التي يقطن فيها، وألّف كتاب “دعنا نغني” مع اللبنانية جولندا أبي النصر، وكتاباً آخر مع اللبناني كفاح فاخوري، ومن أشهر مؤلفاته الأوركستراليّة: ملحمة المدن الميّتة، أنشودة السلام، غابة النواح، رقصات وأغانٍ شعبيّة، صور من الشرق. وقاد الأوركسترا السيمفونية في برلين لأول سيمفونية سورية “الربان والعاصفة “توزيع رحيباني، تأليف الموسيقار صفوان بهلوان، عام 1987، وعمل قائد أوركسترا للعديد من الفرق السيمفونية العالمية، منها فرقة سان بطرسبورغ وفرقة إذاعة برلين والفرقة السيمفونية الوطنية السورية، وهو عضو في جمعية كارل أورف الدولية في زالسبورغ والجمعية الدولية لتطوير الدراسات الموسيقية في ألمانيا “IGMJ”، ومن ألحانه: موسيقا لأسطورة “حرب الشفاه”، للفنان السوري الراحل برهان كركوتلي، ولحّن “باليه أسطورية” التي قُدمت بنجاح كبير في ألمانيا.