مخاض سكرات الموت لهيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
نظراً لانهيار الروايات السائدة المختلفة لا سيما تلك المتعلقة بحرب الولايات المتحدة والناتو مع روسيا في أوكرانيا، يجب على الأمريكيين البدء في إعادة تقييم فهمهم للقيادة الوطنية للولايات المتحدة، إذ ليس لديهم أية فكرة عن التباين والاختلاف الكبير بين ما تفعله حكومتهم في الخارج، والقصص التي تروج لها إدارتهم.
نتيجة لذلك، يدعم الأمريكيون عن غير قصد جميع أنواع العمليات الخارجية التي تقوم بها إدارتهم مع فهم ضئيل أو حتى معدوم لما يجري بالفعل، خاصةً أنه يتم تضليلهم لسنوات من خلال حملة دعائية متواصلة بدأت الآن فقط في الانهيار.
يشهد العالم اليوم مخاض الموت لهيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب على أجزاء كبيرة من العالم، وإلى أن يبدأ الأمريكيون في إدراك كم الخداع السياسي لحكومتهم، سيصبح من الصعوبة بمكان، وبشكل متزايد فهم الموقف العالمي المتغير للولايات المتحدة، والتكيف مع آثار التصور السلبي المتزايد للولايات المتحدة لدى العديد من الأشخاص حول العالم.
كانت الولايات المتحدة تعتبر منذ الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي القوة العالمية المهيمنة التي لا مثيل لها، وبدلاً من أن تكون جندياً حافظاً للسلام، وشرطياً عالمياً صادقاً، كانت الولايات المتحدة على نحو متزايد متسلطاً مزعزعاً للاستقرار، حتى أن العديد من القادة في جميع أنحاء العالم كانوا مترددين في التحدث عن الطبيعة المدمرة بشكل متزايد للسياسة الخارجية الأمريكية خوفاً من العقاب، ولكن مع تراجع مكانة الولايات المتحدة وقوتها، سعت أجزاء كبيرة من العالم إلى اتخاذ ترتيبات لحماية نفسها من سياسات النهب والتوحش الأمريكي.
لا يفهم معظم الأمريكيين سبب حدوث مثل هذه التحالفات، وذلك بفضل تيار مستمر من الدعاية حول أمريكا كونها “الأكثر كرماً” و “الأمة الاستثنائية”، و “الأمة التي تضع مصالحها جانباً لصالح العالم” ، وهي “مصدر مهم للخير” في جميع أنحاء العالم باعتبارها “حامي النظام القائم على القواعد”، وتتحمل دائماً عبء المسؤولية الأكبر لحماية النظام الدولي، والدول الضعيفة من الجهات الفاعلة السيئة، في حقيقة مثيرة للغثيان.
ووفقاً للعديد من المصادر، كانت الحروب التي سببتها الولايات المتحدة مسؤولة بشكل مباشر عن مقتل أكثر من 10 ملايين شخص منذ الحرب العالمية الثانية، ستلاقي مثل هذه الحقائق السخرية من قبل المحافظين الجدد ومن مصادرها، لكن معظم العالم يدرك أن هذه المعلومات صحيحة.
لا يستطيع معظم الأمريكيين تقبل هذه الملاحظات، لأنها تتعارض مع الرواية التي قدمتها لهم آلة الدعاية الأمريكية المنتشرة في كل مكان، وفي حين إن قائمة الجرائم الأمريكية المتزايدة باستمرار في الخارج ظلت لسنوات غير قابلة للجدل إلى حد كبير في الداخل، ولذلك يتوجب على الأمريكيين أخذ العلم أنها أصبحت واضحة بشكل متزايد لعدد كبير في جميع أنحاء العالم.
على عكس الأساطير، تشتهر الولايات المتحدة بالنكث بوعودها، وانتهاك المعاهدات والتخلي عن الاتفاقيات، والقائمة طويلة بدءاً من وعد الولايات المتحدة عام 1990 بعدم نقل الناتو شرقاً إلى دول اتفاقية وارسو السابقة، وإلغاء معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، ومعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، واتفاقية السماء المفتوحة، ومعاهدة ستارت لتخفيض الأسلحة النووية، والاتفاق النووي الإيراني المعروف رسمياً بإسم خطة العمل الشاملة المشتركة، والاتفاقية مع ليبيا، وغيرها. كما انتهكت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً القانون الدولي من خلال غزوها لدول لا ترضخ للهيمنة الأمريكية أو املاءاتها.
هناك عدد من الوكالات الأمريكية التي تمول سراً عمليات تدخل المنظمات غير الحكومية في الانتخابات، وليس لدى معظم الأمريكيين أي فكرة عن إنشاء” الصندوق الوطني للديمقراطية” في حقبة الحرب الباردة للتأثير على الانتخابات في البلدان حول العالم، وكان قد تدخل في العديد منها. كما أن “الصندوق الوطني للديمقراطية” كان ينفق الأموال في روسيا حتى قام الروس بطردهم. ثم هناك “الثورات الملونة” الشهيرة التي رعتها وكالات أمريكية مختلفة، وفي هذا الإطار يقدر البعض أن الولايات المتحدة قد تدخلت في ما يصل إلى خمسين دولة.
إن أيام التظاهر بتجاهل هذا السلوك المدمر تقترب من نهايتها مع دخول فترة قد يقرر فيها سكان العديد من دول العالم أن الخضوع للهيمنة الأمريكية ليس في مصلحتهم. وفي هذا الخصوص انضمت أعداد متزايدة من الدول، وشكلت تحالفات بديلة خارج نفوذ الولايات المتحدة، حيث شهدت “منظمة شنغهاي” للتعاون، و”بريكس +” ، و”أوبك + “، وآخرون عضوية متزايدة حيث تعتقد العديد من الدول أن مصالحها محمية بشكل أفضل من خلال هذه التحالفات غير المنتسبة للولايات المتحدة.
ولا بد من الإشارة إلى أن تداعيات الحرب الأوكرانية المأساوية، وغير الضرورية أدت إلى تسريع هذا التحرك للبحث عن جمعيات ومؤسسات تعاونية أخرى، وحتى يستيقظ الحلفاء الأوروبيون لأمريكا، يمكن أن تكون هناك تكاليف سياسية واقتصادية ضخمة لربط مصالحهم بالولايات المتحدة، حيث شهد سكان أوروبا معاناة اقتصاداتهم وهم يدفعون ثمناً باهظاً مقابل الطاقة بسبب الجولات العشر من عقوبات التدمير الذاتي المفروضة على روسيا.
لقد قرر مقدم وحامي “النظام القائم على القواعد” الأمريكي أن ألمانيا لا ينبغي أن تستورد الغاز الطبيعي الروسي الرخيص، كما هدد رئيس أمريكا ومسؤول كبير في وزارة الخارجية بقطع خط الأنابيب الذي يمد الغاز الطبيعي الروسي إذا لم تذعن روسيا لرغبات واشنطن. ومن قبيل الصدفة، تم تفجير خطوط أنابيب الغاز “نورد ستريم” بعد فترة وجيزة. وقالت وزيرة الخارجية الأمريكية إن التفجير كان “فرصة”، حيث بدا مساعد وزير الخارجية راضياً عن ذلك. وقد يعتقد المحافظون الجدد الذين يشيدون بهذا العمل الإرهابي ضد حليف للولايات المتحدة أن التظاهر بأن واشنطن ليست مسؤولة سوف يطمئن أمريكا وأوروبا، لكن بقية العالم يعتقد عكس ذلك.
سوف يتجاهل الكثيرون أو يقللون من عواقب الدور المحتمل للولايات المتحدة في تدمير خطوط الأنابيب، لكن هذه الإضافة إلى قائمة الأفعال الهمجية التي يُعتقد في الخارج أنها ترتكبها الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض سردية أمريكا باعتبارها “الأمة السخية”، “قائدة العالم الحر ، و “الحامية للنظام القائم على القواعد”.
لسنوات، كان يتم تجاهل هذه التناقضات بمهارة وتجاهلها من قبل الصحافة المطيعة والمؤسسات المتواطئة التي استفادت من هذه الخدع، ولكن نظراً لأن الولايات المتحدة تبدو أقل قوة، فإن بقية العالم بدأ ينتبه ويتحرك للبحث عن صداقات وقائية واحترازية أخرى.
قبل أقل من عامين، تم طرد “أقوى جيش في تاريخ البشرية” من أفغانستان من قبل حركة طالبان التي تمتلك الآن معدات عسكرية أمريكية بقيمة 80 مليار دولار خلفها قادة أمريكا العسكريين وراءهم. قد تكون الأعذار مقنعة لنخب واشنطن وقد تم تسويقها بقوة من قبل وسائل الإعلام المتحالفة مع الإدارة الأمريكية، لكن بقية العالم يعرف الحقيقة بشكل أفضل.
إن العبارات والاستعارات المجازية القديمة التي أعقبت انهيار فيتنام، التي تزعم “كنا سننتصر لو سمح لنا حقاً بالقتال فقط”، تبدو جوفاء بعد عشرين عاماً، والتي أودت بحياة مئات الآلاف من القتلى والتشرد، وإنفاق تريليونات الدولارات على تلك الكارثة. وعلى عكس التأكيدات العديدة بأن الروس سوف ينهارون جراء الصدمة والرعب من “عقوبات الجحيم” لم ينهار الروبل الروسي كما توقع جو بايدن.
إن كل هذا يذكر بالحرب العالمية الأولى، حيث سَوق المحافظون الجدد الأوليون تلك الحرب على أنها اشتباك سريع سينتهي بحلول عيد الميلاد عام 1914، لكن وبعد أربع سنوات، قتل 20 مليوناً وأصيب عدد أكبر أو شردوا. وبعد ذلك، انهارت معظم الملكيات الأوروبية، وانزلقت روسيا في كابوس الشيوعية الذي دام سبعين عاماً، ومهدت “الحرب لإنهاء كل الحروب” لجعل العالم “آمنًا للديمقراطية” المسرح للحرب العالمية الثانية الأكثر فظاعة.
بعد قرن من الزمن، يسير الأمريكيون غير مدركين نحو الحرب العالمية الثالثة، ولذلك يجب عليهم تجاهل الدعاية التي ترعاها الدولة والتي تشبه بشكل مخيف تلك التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، والاستيقاظ، والنظر إلى ما فعله قادتهم، والقيام بكل كل ما في وسعهم لإنهاء الدعم لهذه الحرب الوحشية قبل مواجهة حرباً كبرى.