من الذي وقع في الفخ؟.. تحالف تاريخي بين الصين وروسيا
البعث الاسبوعية-هيفاء علي
في موسكو، كشف القادة الصينيون والروس عن التزامهم المشترك بإعادة تعريف النظام العالمي، وهو مشروع “لم نشهده منذ 100 عام”، بحسب الرئيس الصيني. وهذه هي المرة الأولى منذ خمسة قرون التي لا يوجد فيها زعيم سياسي في الغرب، بل الرئيسان الصيني والروسي هما اللذان يديران اليوم المشهد المتعدد الأقطاب، وقد تم توضيح أهداف القمة بالتفصيل قبيل انعقادها، في مقالتين للرأي كتبهما الرئيسان بأنفسهما، حيث تجلت رؤية بوتين في صحيفة “الشعب” اليومية الصينية مؤكدة على الشراكة التطلعية، بينما نشر “شي” في الجريدة الروسية وعلى موقع ” ريا نوفوستي” مركزاً على فصل جديد من التعاون والتنمية المشتركة.
منذ بداية القمة، أصيب الناتو والولايات المتحدة بنوبة هيستيرية من الغضب والحسد والحقد معاً، فقد كانت هذه القمة هي الصفقة الحقيقية التي أعلنت عن رسم مسار تعدد الأقطاب، والذي يبدأ بحل لأوكرانيا، حيث كان هناك تسريب مهم إلى حد ما فيما يتعلق بـ “التبادل المتعمق” بشأن أوكرانيا، حيث شدد بوتين على أنه يحترم موقف الصين، الذي عبرت عنه خطة بكين لحل النزاع المكونة من 12 نقطة، والتي رفضتها واشنطن تماماً. لكن الموقف الروسي لا يزال ثابتاً: نزع السلاح، وحياد أوكرانيا، ومراعاة الحقائق الجديدة على الأرض. في الوقت نفسه، استبعدت وزارة الخارجية الروسية أن تلعب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا دوراً في المفاوضات المستقبلية بشأن أوكرانيا، فهم لا يُعتبرون وسطاء محايدين.
قبل عام، تساءل المحللون الغربيون عما إذا كان بالإمكان اعتبار العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا نقطة انطلاق لنهاية حقبة الهيمنة الغربية على العالم التي استمرت لقرون، لأن كل ما حدث لمدة عام يشير إلى هذا المسار، الذي يؤكده اليوم هذا الحدث التاريخي الذي تم مؤخراً في موسكو مع زيارة الرئيس الصيني الهامة، والقمة التي عقدها الزعيمان الروسي والصيني، والتي أسفرت عن إبرام اتفاقية شراكة لا محدودة في كافة المجالات، الأمر الذي أـثار غضب الغرب بقيادة الولايات المتحدة الذي يتمايل كالبطة العرجاء ومقطوعة الرأس، ويواصل الدعاية الهيستيريا لدرجة الهذيان في محاولة يائسة لإعطاء انطباع بأن الواقع هو الوصف الذي يضعه له، والأمثلة على هذه الأكاذيب وعلى قراراته السخيفة، لاتعد ولا تحصى، بل تعكس في النهاية شيئاً واحداً فقط هو الفوضى في وجه عالم متغير يفلت من قبضته. وأحدث على مثال على ذلك، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
مذكرة توقيف غير ملائمة قانونياً وقضائياً
حول الأسس الموضوعية، أثارت هذه المؤسسة جدلاً يتعلق بإجلاء الأطفال من دونباس من مناطق الحرب لإيوائهم على الأراضي الروسية، تحت مسؤولية وزارة الأسرة الروسية، ومن الواضح أن هذا الاختيار من التجريم الملتوي كان لتجنب التشكيك في جرائم الحرب الحقيقية في القتال. وقد فشلت لأنه لتوصيف “حياد” السلطة القضائية، يجب التذكير بأن الاتهام يستند إلى التفسير الذي قدمته حكومة كييف للجهود التي بذلها الروس لإجلاء المدنيين من مناطق خط المواجهة التي كان الجيش الأوكراني يستهدفها، بأسلحة قدمها الناتو، أما القيمة القانونية لهذا النهج فهي قريبة من الصفر.
عندما تم إنشاؤها، كانت المحكمة الجنائية الدولية قد حركت بعض الآمال، ولهذا السبب وقعت 123 دولة على “قانون روما الأساسي” الذي نص على إنشائها، ماعدا الولايات المتحدة التي رفضت الانضمام إلى نظام روما الأساسي. وفي عام 2002 أصدر الكونغرس قانوناً يحظر أي تعاون مع المحكمة، ويفوض جميع الوسائل الضرورية والمناسبة لتحرير أي مواطن أمريكي بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر، أي تدخل عسكري صريح.
لذلك، فإن جميع أفعال المحكمة الجنائية الدولية ليست قابلة للتنفيذ ليس فقط تجاه روسيا، ولكن أيضاً في جميع الدول غير الموقعة، لذلك لا قيمة لمذكرة التوقيف هذه. ولكن لماذا هذه المبادرة، إن لم يكن لتنفيذ عملية اتصال مثيرة للشفقة من جانب مؤسسة تميزت قبل كل شيء بالإجراءات القانونية القسرية ضد خصوم الولايات المتحدة في البلقان والقادة الأفارقة الذين ارتكبوا جريمة فظيعة لمحاولتهم التحرر من الهيمنة الغربية؟.
بدأت “لجنة التحقيق الجنائي” الروسية إجراءات اسمية ضد أعضاء المحكمة الجنائية الدولية لإقدامهم على بدء إجراءات جنائية ضد شخص بريء، وكذلك التحضير لهجوم ضد ممثل دولة أجنبية المفروض أنها تمتع بحماية دولية بهدف تعقيد العلاقات الدولية.
اندفع نظام الإعلام الغربي إلى هذه المعلومات، دون قياس الحدود الواضحة لعملية لم تؤد إلا إلى سخط الجنوب العالمي في مواجهة هذا المظهر الجديد لـ “المعايير المزدوجة” التي لا تطاق الآن، ناهيك عن عدم أهلية النظام المؤسسي الناجم عن القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي بات جميع أعضائه غير مؤهلين. وبينما وافقت المحكمة الجنائية الدولية على أن تجعل من نفسها أداة التلاعب بيد الغرب وأمريكا على وجه التحديد، يستمر العالم في التحول في ديناميكية التسارع التي بدأت منذ 24 شباط 2022، وتجلت بأبهى حللها في الحدث المهم المتمثل في زيارة الرئيس الصيني لموسكو، والتي تشهد عليها جميع الجوانب، والبروتوكول، وتشكيلة الوفود، ومدة المحادثات، والتغطية الإعلامية خارج الغرب.
وكما قال القادة الصينيون، فإن الشراكة بين الصين وروسيا “لا حدود لها”. ومن ثم هناك القمة الروسية الأفريقية المرتقبة في موسكو بحضور 40 رئيس دولة، حيث أعلن فلاديمير بوتين عن إعفاء 30 مليار دولار من الديون، بالإضافة إلى الاتفاق الإيراني السعودي التاريخي، وزيارة السيد الرئيس بشار الأسد بعد موسكو إلى الإمارات العربية المتحدة. كما أن توقيع إيران والعراق على اتفاقية تعاون أمني ستنهي نشاط الميليشيات الانفصالية الذي ترعاه وكالة المخابرات المركزية ضد إيران. وهناك أيضاً زيارة الرئيس البرازيلي لولا للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ العائد من موسكو. في حين أن رئيس بوليفيا، التي تمتلك بلاده أكبر احتياطي من الليثيوم في العالم، هو الذي دعا فلاديمير بوتين ليؤكد له دعمه، والرئيس الإندونيسي هو الذي يؤكد ضرورة الاستغناء عن الدولار من الآن فصاعداً.
يضاف إلى هذا الملخص للأيام الأخيرة الماضية، الأزمة المالية الغربية التي تطرق أبواب الولايات المتحدة، والغرب عموماً، مع إفلاس أكبر بنك فيها وهو بنك ” سيليكون فالي” تلاه إفلاس عدة بنوك أخرى، وقد تكون عواقب هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية مدمرة. في ضوء هذا الموقف، فإن مذكرة الاعتقال الصادرة ضد فلاديمير بوتين، بالإضافة الى عدم كفاءتها القانونية، تُظهر طابعها الساخر. كما أحبطت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وألمانيا وفرنسا الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وأوكرانيا في الأيام الأولى من آذار 2014، ويسعون مرة أخرى ولكن دون جدوى، لإضعاف روسيا ويحلمون “برؤيتها تركع لهم”، بينما تواصل روسيا بشكل منهجي عمليتها العسكرية في أوكرانيا، التي تواجه فيها الناتو والولايات المتحدة.
إنها حرب صناعية، وباتت نتيجتها مؤكدة الآن، فأوكرانيا لم تعد موجودة كدولة قابلة للحياة، وقدرة الغرب العسكرية باتت هشة للغاية، باعتراف كبار الخبراء الغربيين. اقتنعت الولايات المتحدة في عام 1991 بانتصارها النهائي في الحرب الباردة، وتلاها أتباعها الأوروبيين، وكانت تعتبر نفسها شرطي العالم، وقد ضاعفت عمليات الابتزاز الوحشية بينما كانت تنغمس في ديونها في هرم بونزي الهائل، مع تمويل شامل على خلفية تراجع التصنيع والفساد العملاق في مجمعهم الصناعي العسكري، الذي ابتليت به الانقسامات السياسية غير القابلة للاختزال من خلال أيديولوجيات مجنونة، وبالتالي أصبحت الولايات المتحدة اليوم عملاقاً بأقدام من الطين.
تخصيص يوم للأعمال التجارية
من الطاقة إلى التعاون “العسكري التقني” لتحسين كفاءة التجارة والممرات الاقتصادية التي تعبر أوراسيا، اذ تعد روسيا بالفعل المورد الرئيسي للغاز الطبيعي للصين، متقدمة على تركمانستان وقطر. ويُنقل معظم هذا الغاز عبر خط أنابيب الغاز “سيبيريا فورس” الذي يبلغ طوله 3000 كيلومتر، والذي يربط سيبيريا بمقاطعة هيلونغجيانغ شمال شرق الصين، والذي سيتم تشغيله في كانون الأول القادم. كما أن التعاون الصيني الروسي سيشهد الذروة في مجال التكنولوجيا العالية من خلال 79 مشروعاً بأكثر من 165 مليار دولار، حيث كل شيء يمضي على قدم وساق من الغاز الطبيعي المسال إلى إنشاءات الطيران، من خلال بناء أدوات الآلات، وأبحاث الفضاء، والأعمال التجارية الزراعية، وتحسين الممرات الاقتصادية.
في السياق، صرح الرئيس الصيني أنه يريد ربط مشاريع طريق الحرير الجديد بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهذا الربط بين طرق الحرير والاتحاد الاقتصادي الاوراسي هو تطور طبيعي، حيث وقعت الصين بالفعل اتفاقية تعاون اقتصادي مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وأخيراً، بدأت أفكار الخبير الاقتصادي والاستراتيجي الروسي سيرغي غلازييف تؤتي ثمارها، حيث سيكون هناك زخم جديد نحو التسويات المتبادلة في العملات الوطنية، وبين آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لجميع المقاصد والأغراض. وقد أيد بوتين دور “اليوان” الصيني كعملة تجارية جديدة مفضلة، بينما تستمر المناقشات المعقدة حول الذهب الجديد والعملة الاحتياطية المدعومة بالسلع.
حقيقة، هذا الهجوم الاقتصادي والتجاري المشترك هو جزء من الهجوم الدبلوماسي المنسق بين روسيا والصين بهدف إعادة تشكيل مساحات شاسعة من غرب آسيا وأفريقيا. إن حقيقة أن رحلة شي إلى موسكو تتزامن تماماً مع الذكرى العشرين للغزو والاحتلال والتدمير الأمريكي غير القانوني للعراق ليست مصادفة. في غضون ذلك، وصل أكثر من 40 وفداً أفريقياً إلى موسكو قبل يوم واحد من شي لحضور مؤتمر برلماني بعنوان “روسيا وأفريقيا في العالم متعدد الأقطاب”، قبل القمة الروسية الأفريقية الثانية التي ستعقد في تموز المقبل. وعليه، تشبه المنطقة المحيطة بالدوما الأيام الخوالي لحركة عدم الإنحياز، عندما كانت معظم الدول الأفريقية لديها علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي، ومناهضة للإمبريالية.
كما ذكرت مصادر قريبة من المفاوضات بين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، أنه تم توقيع 84 عقداً لتزويد روسيا بمكونات وأنواع مختلفة من المعدات الكهربائية بقيمة حوالي 43 مليار روبل. كما تم توقيع اتفاقيات بمشاركة الشركات الخاصة الصينية بشأن التبادل المتبادل لبيانات الأقمار الصناعية. بالإضافة إلى ذلك، تم تعزيز التعاون بين موسكو وبكين في مجال الأمن السيبراني، حيث سيقوم الخبراء الصينيون بتثبيت العديد من جدران الحماية التجريبية للحماية من هجمات الشبكة وفصل الاتحاد الروسي عن الإنترنت، وسوف يتواجدون في المدن الروسية الكبرى موسكو، فلاديفوستوك، وكازان، ويكاترينبورغ، وسانت بطرسبرغ، وسيمفيروبول، وغروزني، وكراسنودار. إلى جانب ذلك، وقع الجانبان الروسي والصيني عدة اتفاقيات تعاون في عدد من الصناعات، كما تم توقيع العديد من الاتفاقيات في قطاع الطاقة والتعاون العسكري بمشاركة ووزارة الدفاع الروسية.
من وقع في الفخ؟.
لقد نوه المحللون في وقت مبكر من عام 2022 إلى أن العالم يشهد بداية نهاية دورة استمرت قروناً من الهيمنة الغربية، كانت العولمة هي الشكل الحديث لها. في آذار 2020، بعد أسابيع قليلة من تولي جو بايدن منصبه، تم التخطيط لعقد قمة أمريكية صينية، وقد أرادت الولايات المتحدة أن تعقد القمة في واشنطن، لكن السلطات الصينية رفضت ذلك، فتم عقد القمة في ألاسكا، أي في منتصف الطريق بين العاصمتين، وقد أصر الصينيون على أن يحضر الصحفيون الاجتماع. وقد أشارت وزارة الخارجية الصينية آنذاك إلى أن الولايات المتحدة لا تمثل الرأي الدولي، والغرب لا يمثل العالم أيضاً، وعندما يتعلق الأمر بالهجمات الإلكترونية، سواء من حيث القدرة على إطلاقها أو التكنولوجيا، فإن الولايات المتحدة هي البطل.
منذ تلك اللحظة، تغيرت لهجة الدبلوماسية الروسية والصينية بشكل ملحوظ للغاية، ثم جاءت مساعي موسكو في خريف عام 2021 والطلب الكتابي لإجراء مفاوضات بشأن الأمن في أوروبا، والذي ينبغي أن يؤدي إلى معاهدة، وهو الأمر الذي لم تتابعه الولايات المتحدة، بكل غطرسة في 4 شباط 2022، تم نشر بيان مشترك وقعه فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، والذي كان قاسياً للغاية على الاستراتيجيات الأمريكية، مؤكداً على ضرورة الأمن العالمي لمعارضة هذه الاستراتيجيات.
ثم جاءت المفاجأة من فشل الحرب الاقتصادية الغربية ضد روسيا، والعزلة السياسية والإستراتيجية التي مني بها الغرب، ثم خطأ تخريب معاهدة السلام والصعوبات التي واجهتها الحرب الصناعية الشديدة التي فرضتها روسيا. منذ عام 2014، أعدت موسكو نفسها بعناية استراتيجياً وعسكرياً وسياسياً وصناعياً ودبلوماسياً. وفي الوقت عينه، وفي إطار توزيع دقيق للأدوار، سعى الصينيون، في الوقت الذي يطورون فيه خطاباً شديد القسوة ضد “الهيمنة الأمريكية”، ويطلقون تصريحات متعددة عن الصداقة “غير المحدودة” مع الروس، دون أن يهدأ عملهم الدبلوماسي، سعوا لتطوير البنى التحتية التجارية التي تهدف إلى تطوير العالم متعدد الأقطاب، والذي أكده فلاديمير بوتين وشي جين بينغ على أنه هدفهما الرئيسي من هذه الزيارة، هو إعلان هذا التحالف الذي سيغير العالم.
كلمة أخيرة
موسكو، التي رحبت أخيراً بأول أيام الربيع المشمسة، قدمت توضيحاً أكبر من الحياة في هذا الأسبوع من الأسابيع التي تمر فيها العقود مقابل العقود التي لا يحدث فيها شيء، حيث كرست قمة شي بوتين بشكل قاطع الصين وروسيا كشريكين استراتيجيين عالميين على المدى الطويل، عازمين على تطوير منافسة جغرافية سياسية وجغرافية اقتصادية مع الهيمنة الغربية المتدهورة. هذا هو العالم الجديد الذي ولد في موسكو هذا الأسبوع، وكان بوتين قد عرّفها سابقاً على أنها سياسة جديدة مناهضة للاستعمار إنه الآن خليط متعدد الأقطاب.
عند نهاية الزيارة، ودع الريس الصيني “شي” نظيره الروسي بوتين بالقول: “اليوم هناك تغييرات لم تحدث منذ 100 عام، عندما نكون معاً، نقود هذه التغييرات. بوتين… أوافق. شي: اعتني بنفسك يا صديقي العزيز. بوتين: رحلة سعيدة في فجر يوم جديد، من أرض الشمس المشرقة إلى سهول أوراسيا”.