أيقونة الرقة وفراتها
سلوى عباس
كتب القليل عن عبد السلام العجيلي إزاء مكانته الإبداعية العالية، وارتهن النقد الخاص به بالأدلجة غالباً في المرحلة الأولى التي استمرت حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بينما تطورت الكتابة النقدية حول إبداعه في المرحلة الثانية منذ عام 1990 وحتى الآن.
أما بداءة النقد حول الأدب بعامة والعجيلي بخاصة حتى نهاية الستينيات فلا تخرج عن المراجعات والانطباعات، مثلما يصعب انتسابها إلى المنهجية النقدية تحليلاً كاشفاً عن الرؤى الفكرية والفنية، باستثناء ما كتبه عدنان بن ذريل في كتابه “أدب القصة في سورية” 1962 وقد أرخ في هذا الكتاب للقصة في سورية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى تاريخ إصدار كتابه، وحلل أهم الإبداعات القصصية وفق المنهج الوصفي التحليلي إلى حد ما، وأبرز هذه المذاهب الأدبية في منحيين الأول المذهب الواقعي عند السرديين وفي مقدمتهم عبد السلام العجيلي واصفاً سرده بالتصوير، وقد وصف بعض النقاد العجيلي بـ”البدوي البرجوازي” أو “البرجوازي النبيل” فقال عنه نزار قباني: “العجيلي أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية”، ويجمع كثيرون أن عبد السلام العجيلي كان من أكبر مبدعي عصره شعراً ونثراً في سورية، وكذلك طبياً إذ كان من أمهر الأطباء الجراحين وأكثرهم التصاقاً بمدينته الرقة وأبناء عشيرته، هذه البيئة البدوية انعكست في كل كتابات العجيلي؛ إذ يقول عن مدينته: “ولدت في الرقة، بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة، على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور، من الناحية الاقتصادية كان أغلب أهل الرقة، وأسرتي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية، بأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ حتى أوائل الخريف، وقد عشت هذه الحياة في صباي، فأثرت فيَّ كثيراً وقبست منها كثيراً فيما كتبت”.
أولى محاولات العجيلي الكتابية بدأت في الثانية عشرة من عمره عبر تأليفه تمثيلية عن قصة تاريخية حدثت في إحدى ضواحي الرقة، ومحاولته كتابة بعض الأبيات الشعرية، لكنها كانت بداية تشوبها بعض الأخطاء في الوزن والعروض والتي تداركها لاحقاً بعد معرفته الكاملة بها، وفي عام 1936 نُشر أول عمل له في مجلة “الرسالة” المصرية وهو عبارة عن قصة بدوية تحمل عنوان “نومان”، حيث شكلت هذه الخطوة حافزاً وثقة كبيرة في نفسه بالرغم من نشرها باسم مجهول، وفي عام 1938، نال الشهادة الثانوية من مدارس مدينة حلب، وانتقل إلى دمشق حيث التحق بكلية الطب بجامعة دمشق وتخرج منها في عام 1945.
في كتاباته الكثيرة والمتنوعة اتبع العجيلي المذهب الإنساني، مُنطَلقاً لكل فكره وآرائه التي بثها في تلك الكتابات، فجسد في ذلك صدق الأديب والطبيب معاً، كما أنه مثّل عصره خير تمثيل، وكان يتمتع بحسّ ساخر مبطن وهو يسرد مفارقات الأشخاص وطرائق فهمهم لظواهر العلم والطب والمدنية والمعاصرة، كما ألف في نهاية الستينيات مع مجموعة من الأدباء (عصبة الساخرين)، لكنه رغم شهرته ككاتب لم يتخل عن مهنته طبيباً، إصراراً منه على مداواة أهل بلده الذين كانوا يقصدون عيادته للعلاج مجاناً، وفي ذلك يقول: “إن ما كتبته يكتبه غيري لكن دوري في مداواة الناس لا يقدر عليه غيري”، ويطلق عليهِ لقب أيقونة الرقة لعدة أسباب منها ممارسته الطب وخدمته لكل الناس لسنين طويلة بلا كلل أو ملل أو أجر.
لقد كان الواقع هو المنبع الرئيسي لأعمال العجيلي، ولم يكن توثيقياً، بل تحليلياً لهذا الواقع، فقد رصد أوضاعه ومآسيه وأفراحه، وكان ينطلق دوماً من قاعدة إيمانه بدور الأدب في صياغة رؤية دقيقة لما يجري، وقد أيقظه الجوع إلى المعرفة، فجعله يلتهم آلاف الصفحات من كتب التراث، ومن دواوين الشعراء، ومن الحكايات والأمثال والسير الشعبية، فتكونت لديه ثروة مبكرة من مخزون الأدب، فكان حكواتي هذا الزمان أضاف إلى مخزون القص العربي الحديث المكتوب أهمية بالغة، حيث لا يميّز المرء في أدبه الواقع الملموس من الواقع المتخيل، فكلاهما واحد، ليجد القارئ نفسه أمام واحد من أهم الذين يبنون هيكل الحكاية المعاصرة، وتعد مجموعاته القصصية مدونة سردية مؤسسة ودالة على ظاهرة القص العربي، إذ يقول د.حسام الخطيب في كتابه “القصة القصيرة في سورية”: “كان ظهور “بنت الساحرة” للأديب العجيلي في عام 1948 علامة انعطاف حي في تاريخ القصة القصيرة في سورية، فهي ليست إعلاناً عن ولادة كاتب قصصي عظيم فحسب، بل إعلان عن بدء استواء فن جديد متميز في التجربة الأدبية لسورية، ومن هنا لا بد من القول إن “بنت الساحرة” تحتفظ بقيمة تاريخية كبرى إضافة إلى قيمتها الفنية، فالعمل الأدبي يصير نقطة انعطاف حينما يجمع بين القيمتين جمعاً واضحاً”.
في نيسان من عام 2006 رحل الأديب العجيلي تاركاً لنا من فائق الإبداع وغزارته ومن القيم الأخلاقية ما يسمح لنا بالقول: إنّ من كان مثله لا يمكن أن يعوّض ولا يجود به الدهر إلا نادراً.