مجلة البعث الأسبوعية

رواد السوشيال ميديا.. نقاد يتصيدون الأخطاء ويتاجرون بها

أمينة عباس

ما إن بدأت المحطات التلفزيونية والمنصات ببثّ الحلقات الأولى من الأعمال الدرامية خلال الموسم الحالي حتى استُبيحت هذه الأعمال من قِبل رواد السوشيال ميديا الذين عملوا على تصيّد الأخطاء والعثرات التي وقعت بها لتتحول بفعل التكرار والنسخ إلى ترندات يتاجرون بها، في حين غاب النقد الحقيقي، باستثناء بعض ما يُكتب من قبَل نقّاد معروفين اتخذوا من صفحتهم منبراً لهم لممارسة نقد ما بُثّ من حلقات دون إطلاق أحكام نهائية، منتظرين انتهاء الأعمال لإطلاق قولهم الفصل.

نقد الاسترخاء والترف

وحول فوضى النقد التي عمّت السوشيال ميديا والتركيز على تصيّد الأخطاء في الأعمال الدرامية يبيّن الناقد أحمد علي هلال لـ”البعث”أن ما يُتداول من (نقد) للأعمال الدرامية مع شيوع جائحة هذا النقد يوحي بموت الناقد الدرامي، في حين أن المسألة أبعد من ذلك بما يصاحبها من ارتجال الأحكام والابتعاد عن المعيارية والموضوعية والحدود المعرفية المنهجية نتيجة غياب الاختصاص وتوسل نجومية بمعنى ما توهماً بحجم الإعجابات وحصد الترند ولفت الأنظار من خلال المديح أو الهجاء الجاهلوالوقوف عند الأخطاء وتضخيمها بتجاوز أي قيمة  فنية أو جمالية للعمل، أو من خلال امتداح عمل بعينه بشكل مبالغ، موضحاً هلال أن وسائل التواصل الاجتماعي على أهميتها وخطورتها أتاحت أشكالاً من الاختراقات غير الواعية لتسطيح مفهوم النقد الدرامي والعصف بقواعده بمسوغ التذوق والانطباع الذي يأتي في أكثر الأحيان مقصراً في متابعة العمل كاملاً، مع الابتذال وإسقاط رغبات بعينها لأولئك (النقاد) والمفارقة برأي هلال أن سوق النقد الدرامي في وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالمتناقضات وشيوع خطابات لغير المختصين الذين يسعون لمزاحمة أهل الاختصاص النادرين، حيث تغلب على هذا (النقد) سمات تتأرجح مابين غياب الخيال الاحترافي الذي يرصد العمل كقيمة مضافة ودلالته في المشهد الدرامي والخروج عن سياقات أكاديمية، وذلك يظهر جلياً في ركاكة اللغة التي يعتمدونها وغياب الثقافة الدرامية وفجاجة الأسلوب وتغييب قيم النص، ليكون نقد الاسترخاء والترف الذي يطيح بالأعمال باختزالها للأخطاء والعثرات حصداً للترندات المجانية التي تعج باستظهار التفاهة ومفرداتها، والسبب غياب المنهجية والتوهم بالتقاط اللحظة الدرامية واللحاق بعصر الصورة وتغذيتها الراجعة في السلوك والقيم، مع غياب الثقافة الدرامية بحد ذاتها وقواعدها في ظل ندرة نقاد الدراما الحقيقيين الذين يعيدون الاعتبار إلى النقد بوصفه فعالية معرفية بالدرجة الأولى، إضافة إلى أنها جزء من ظواهر اختراق الثقافة وتعميم الجهل بغياب الناقد الدرامي الحصيف والقراءة بمعناها المعرفي وشيوع مفهوم (الحرية) التي جعلت الكثيرين يسيئون استثمارها، مؤكداً هلال أنه لا بد من العودة إلى المعايير الناظمة لهذا النقد ليصبح مواكباً بحقّ لا ظلالاً باهتة على لوحة الثقافة، وإقصاء هذه الممارسات بوعي منهجي يمارسه النقاد المختصون بعيداً عن الشللية وتكريس قيم السوق الدرامي الذي جلب (كتّاباً) طارئين يعبثون بقيم التلقي ويسايرون شبّاك التذاكر.

 

ثرثرة لا تضر ولا تنفع

ويبيّن الكاتب خلدون قتلان أن ما يحدث في السوشيال ميديا من فوضى آراء حول الأعمال الدرامية هو ثرثرة لا تضر ولا تنفع وشبيهة بثرثرة الجالسين في مقهى، حيث لكل منهم رأيه الخاص الذي يلقيه أمام الحاضرين ولا يدخل في باب النقد، وأن قسماً كبيراً جداً من جمهور المواقع يهاجمون دراماهم ويتصيدون الأخطاء، والغاية جمع لايكات، موضحاً أنه علينا أن نفرّق بين النقد والانطباع، وهو ككاتب ينتظر النقد الذي يكتبه أساتذة مختصون يشرحون فيه العمل ويضعون أصابعهم على مكامن القوة ومكامن الضعف فيه، مع إشارته إلى أن بعض النقد الذي يصدر من بعض (نقاد) الصحافة الفنية والذين يسمون أنفسهم نقاداً دراميين هو نقد انطباعي لا يتعدى إعطاء رأي، في حين أن النقد علم، وهو يختلف عن الرأي وانطباع المشاهَدة لأن ما يراه البعض خطأ في بعض الأعمال الدرامية قد يكون مقصوداً، وهنا يأتي دور الناقد في شرح مالا يفهمه الجمهور، لذلك يرفض قتلان تسمية ما يحدث على منصات التواصل بالنقد، خاصة وأن هذه المنصات تُستخدم أحياناً لتقليب الشارع على عمل ما ومهاجمته بهدف التشويش فقط، مع إشارته إلى أن هناك جمهوراً واسعاً لا يعطي رأيهعلى مواقع التواصل، مع إيمانه أن رسائل العمل وتأثيره على المتلقي تبقى هي الأهم.

لا يحق للجميع أن يكتب

ولطالما اقتنعت الإعلامية وفاء العلي بمقولة “من حق الجميع أن يقرأ ولكن لا يحق للجميع أن يكتب” وهي مقولة نسفتها اليوم السوشيال ميديا بعد أن منحت الحق للجميع أن يشاهد ويصور ويقرأ ويكتب ويدلي برأيه ويناقش، والبعض قد يفتي أحياناً، ورأت أن هذا أمر له جانبان، إيجابي وسلبي،حيث المجال يتسع للنقاش والاختلاف، ومن هنا تجد العلي أن النقد والآراء حول ما تقدمه الدراما أمر طبيعي، خاصة وأن الدراما مادة ترفيهية بالدرجة الأولى قد تستهدف شريحة ما وقد تتوجه للجميع على اختلاف ثقافتهم ومعارفهم،ليبقى برأيها معيار نجاحها مرتبطاً بمدى احترام عقول الجميع.. من هنا تشيروفاء العلي إلى الآراء التي تستهدف الإشارة إلى خطأ هنا أو هفوة هناك، خاصة إن كانت صحيحة ونابعة من ثقافة ومعرفة، في حين تكمن خطورتها في تناقلها بشكل ببغائي، حيث لا يدرك مرددها صحتَها أو أسبابها وتداعياتها، فيطلق ناره دون رحمة بغية تسديد هدف نقدي جارح في مرمى الكاتب أو المخرج أوالممثل دون تقدير لجهود بُذلت، مؤكدة العلي أن المتابع عندما يدلي برأيه على مواقع السوشيال ميديا فلا يعني ذلك أنه أصبح ناقداً فنياً، ولكن قد يكون لرأيه قيمة وفائدة تصحح وتشير إلى خطأ، ولكنها تبقى آراء خاصة به قد نتفق معها وربما لا، موضحة أنه ليس من السهولة أن يُطلَق على أي شخص صفة ناقد فني، فقد يقضي صحفيون سنوات في عالم الصحافة والكتابة لكنهم لا يرتقون إلى مرحلة الإلمام بأصول النقد الفني أو غيره.

فخ وسائل التواصل الاجتماعي

ويرى الناقد الفني عامر فؤاد عامر أنّ المنتَج الفنّي الدرامي هو ملك للجمهور منذ لحظة عرضه الأولى، ووسائل التواصل الاجتماعي ومرتادوها ليسوا بمنأى عن هذا التناول، لذلك لندع الآخر يعبّر عن نفسه ويتحدّث، ولنستمع له ونشاركه إن أحببنا، لكن إن ذهبت الأمور برأيه إلى باب الإسفاف والرغبة في التشويه والتهكّم والتهجّم على صنّاع عملٍ مافهذا أمر غير مقبول، ونكون هنا أمام فخ وسائل التواصل الاجتماعي الذي جمع بين الجاهل والعارف في ذات الصلاحيّات والحقوق، مؤكداً عامر في الوقت ذاته أنه لا يجد في الأمر خطورة كأن يطفو القشّ على سطح مياه النهر فترةً من الزمن ثم يزول تدريجياً مع مرور الوقت، مع اعتقاده أن رواد السوشيال ميديا غير قادرين على تغيير قيمة وإحلال أخرى أو تزييف موضوع، وقد شهدنا موجات التطاول على شخصية فنية أو عمل فني أو مقطع ما من عمل ثم بعد أيام قليلة ينتهي الأمر وكأن شيئاً لم يكن لأن ذاكرة رواد السوشيال ميديا ضعيفة ولا توثيق حقيقي فيها، وهيتشبه الضجيج الذي ينتهي فجأةوقد يصيبنا بالدوار قليلاً لكنه لا يجعلنا مرضى، مذكّراً عامر بما قاله الجاحظ سابقاً: “الأفكار على قارعة الطريق” بمعنى أنها ملك للجميع، وعالم السوشيال ميديا ليس غريباً عن أبعاد هذه المقولة، فهو عالم مُنفتح ولا محدود، تنطلق فيه الفكرة ولا تتوقف عن التناول تبعاً للشخص الذي يتلقاها وأسلوب التعبير عنها في الفضاء الافتراضي الذي يختلط فيه مفهوم إبداء الرأي بمفهوم النقد، والسبب هو وسائل التواصل الاجتماعي، مع أن الجميع يعلم الفرق الكبير بينهما، لذلك تتجلّى ضرورة منح الناقد الحقيقي دوره الفاعلفي التعبير عن نقده الذي يرتقي به في اللغة والهدف والمضمون، مبيناً أن وسائل الإعلام لو اجتهدت على الموضوع لكانت قد خلقت نقاداً فاعلين، ولبات الصوت مسموعاً من منابرهم وليس من غوغاء السوشيال ميديا، موضحاً أن المفهوم الاجتماعي السائد عن النقد هو تبيان سلبيّات المنتج الفنّي فقط، في حين أن النقد هو تشريح وتحليل وطرح الحلول إن أمكنوالإشارة إلى مواطن الضعف والخلل وذلك بهدف خلق الجدل الإيجابي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مهام الناقد برأيه ليست إبداء الرأي فقط لأنه عين صاحية تراقب المشهد العامّ وتنظر في تفاصيله الخاصّة وتكون كلمته هي الفيصل في النهاية، شرط ألا يحيد عن الحقيقة.. من هنا يرى أ.عامر أن الحل للخروج من هذه الفوضى يكون بالتكاتف بين أهل النقد والقائمين على الوسائل الإعلاميّة لإبعاد المتسلقين بآرائهم على مهنة النقد الراقية، حيث أن وسائل الإعلام بأنواعها ترتقي بالنقد السليم وتذهب به لمصافي الصوت المسموع، لذلك يدعو إلى زجّ كوادر جديدة شابة في هذا الميدان، لا سيما وأن قسماً قائماً بحدّ ذاته في المعهد العالي للفنون المسرحيّة يدرّس النقد بعلميّة وبمناهج متفرّدة، وأنه بهذه الطريقة سنصل إلى عدد مهم من النقاد مكرسين في وسائل الإعلام كافة، وستصبح كلماتهم هي الكلمات المرتقبة والمسموعة، حتّى ولو ضجت وعلت أصوات روّاد السوشيال ميديا، خاصة وأن ضبط هؤلاء المرتادين ضمن قوانين وقواعد أمر غير ممكن.

يستجدي الفضيحة أولاً

ويشير الإعلامي والكاتب علي الراعي إلى أنه في الصحافة التقليدية كان ثمة وقتٌ متاح للإعلامي لأن يقوم بتشكيل الرأي العام، لكن اليوم ثمة أمرٌ اختلف، فمع الميديا الجديدة تمّ سحب البساط من تحت قدمَي الصحفي والناقد وأصبح يُخشى عليه من الانقضاض من قبل الشعبوية الهائجة التي تريد محاسبة الصحفي الذي يخرج عن ذائقتها الجمعية العامة، مبيناً أن هذه الحالة الشعبوية بات يستغلها أصحاب النتاجات الإبداعية الذين يوجهون هذه الذائقة حسبما يشاؤون وقبل أن تُعرض أعمالهم، وتجلت هذه الظاهرة في أعمال الموسم الحالي من خلال الاصطفافات والآراء والانحيازات الحادة تجاه كل مسلسل.. من هنا كان من السهولة برأي الراعي توجيه هذه الشعبوية والذهاب بمنحى التصيّد الذي يستجدي الفضيحة وقبل أي شيء آخر بعيداً عن تصحيح الأخطاء، مبيناً أن أي عمل إبداعي هو هدف مشروع للنقد، لكن على أن يتم الأمر من قبل مختصين، وأن يكون موضوعياً، ولكن في الحالة الشعبوية غالباً ما يخرج الأمر عن السيطرة، فالمسألة تبدأ من توجيه فتصيّد لا يقف عند التصحيح، وهنا تكمن المشكلة برأيه، حيث من اللافت تضخيم الأخطاء، علماً أنها أخطاء قد تحصل في أي عمل درامي، خاصة وأن البعض يُطالب أن يكون المسلسل أشبه بالتوثيقي، ومن هنا يرى أ.الراعي أن الهجوم على بعض الأمور التي قد يراها صُنّاع العمل ضروري، وإن بدا نافراً رغم أن له مبرره الدرامي.

النقد لايُكتسب بين ليلة وضحاها

ويلاحظ الإعلامي والمهتم بالشأن الثقافي بديع صنيج أن الجميع تحول إلى نقاد في الفترة الأخيرة، وهم في حقيقة الأمر يقدمون انطباعات لا تستند إلى أي قاعدة نقدية لتكون توصيفات عامة تطال الإخراج والنص، وقلائل منهم من يمتلكون خلفية فنية يبنون عليها رأيهم النقدي حول مفاصل العمل بشكل دقيق ومفصّل وثقافة نقدية فيقدمون آراء يُعتدّ بها تقوم على التحليل الدقيق لأبسط الأمور من زوايا التصوير واللون وحركة الكاميرا والإضاءة والموسيقا التصويرية وأداء الممثلين وكيفية تبينهم للشخصيات، ولا يرى صنيج مشكلة في انتشار ظاهرة قيام رواد السوشيال ميديا بتقديم آرائهم حول ما يُقدم، وهي ظاهرة مبررة، حيث يحق للجميع إبداء رأيه حول ما يُقدم، وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي فعل ذلك, ومهمة من يمتلك قدراً من المعرفة فرز الغث من السمين، ويمكن تبيان ذلك من خلال اللغة التي يكتب بها هؤلاء، فهي تكشف مستواهم النقدي والمعرفي، لذلك يمكن تصويب الأخطاء التي يرتكبونها ليدركوا أحجامهم الطبيعية في هذا المجال لأن النقد لايُكتسب بين ليلة وضحاها أو بمتابعة عشرات المسلسلات وإنما يولد من معرفة آليات وجوانب العمل الدرامي بكل تفاصيله، مع تأكيد صنيج على أنه ما من عمل درامي كامل لأن الظروف الإنتاجية هي التي تتحكم بكل العاملين فيه، إضافة إلى أن موضوع ال 30 حلقة تحول أحياناً دون تحقيق الترابط بين خيوطه بدقة، مع إيمانه أن مهمة النقد هي الإشارة إلى كل الأخطاء الصغيرة والكبيرة بعيداً عن اقتناص الأخطاء وتضخيمها وتعميمها وإنما الإشارة إلى الأخطاء والسلبيات والإيجابيات لأن مهمة النقد ليست جلد العمل والعاملين فيه وإنما التصويب للوصول إلى الكمال الفني.