أحب الحياة التي صنعها بألوانه
سلوى عباس
الفن هو رحلة البحث التي لاتنتهي، والهروب الدائم إلى الحلم؛ إنه وحي وإبداع وتجسيد لمشاعر مفعمة بالحس والعطاء، يخطها الرسام بريشته، والشاعر بكلماته، والموسيقي بألحانه، لذلك فإن الفن بمجمله وجه آخر للفرح، وهذا ما يتجلى لدى الفنان الراحل وليد قارصلي الذي قضى حياته ينفض غبار المرض عن روحه، ويرتفع فوق أثقال المعاناة، فكان يرسم للأمل والفرح ليخرج من أزمته منتصراً على القيود التي فرضها عليه المرض.
كان دائماً يبحث عن وسائل جديدة يتعامل بها مع الزمن الذي يفرض علينا أن نكبر بقسوة، فتفقد الأشياء لونها، ولا يبقى لدينا إلا حنيننا الغامض لما مضى من جميل أيامنا، فكان دائماً يسعى لتلوين خريفه بربيع مشرق بالجمال والحب، حيث أحب الحياة وتلاقت في إبداعه كل العوالم والفنون، وكم من لوحة رسمها ضمّنها تفاصيل الموسيقا والشعر ممتزجة باللون الذي يجعلها سيمفونية ملحمية تنبض بروح الأمل والعطاء.
لعبت الصدفة كل ألعابها في مسيرة حياة وليد الشخصية، فرغم أنه كان يرسم منذ الصغر، إلا إنه يعترف أنه لم يكن يتصور أن الفن سيكون محترفه الرئيسي في حياته المهنية، فمارس الرسم من خلال تجاربه الخاصة وتحت إشراف والدته الفنانة إقبال قارصلي التي كانت من الرائدات في مجال الفن التشكيلي؛ وعندما كبر درس العلوم الالكترونية، وفي الستينيات ألّف عدة فرق موسيقية داخل سورية وخارجها، ومجموعة من الألحان والأغاني التصويرية. لكن مع كل هذا، لازمه الرسم الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى الصديق الأكثر قرباً إلى قلبه؛ وعن أثر والدته في مسيرته الفنية كان يقول: “ظننت في بداياتي أن لاعلاقة لوالدتي بطريقي التعبيري فهي عاطفية جداً بينما أنا تحديدي أكثر، أترقب العواطف ولا أدعها تقودني، ولكنني في كل يوم كنت أكتشف أنني (لوني) على الأقل ابن أمي علماً أنها رحلت دون أن تعرف أني أتابع طريقها الشاق الذي اختارته”.
شكلت دمشق مساحة للأمل والحياة في فن وليد وحياته، فكان يزخرفها بجميل ألوانه معتمداً في أنسنتها على ذاكرته التي كان يشحذها بتفاصيل من وحي الواقع لتكون نابضة بحياة فنية تعبّر عن شغفه بها وحبه لها؛ وكان عدم رضاه عن محيطه وعن نفسه دافعه وحافزه الدائمين ليبحث عن الإيجابي لدى الناس وفي الواقع. ورغم إعاقته، كان صدراً رحباً لأصدقائه يأتون إليه يفرغون همومهم ومتاعبهم في جعبته، فيؤنس وحشتهم ويمسح عن أرواحهم ما تراكم عليها من تعب الأيام؛ وهو بذلك يشتت تعبه وحزنه في تعبهم ليعود ثانية فيجمع هذا الشتات ويشكل منه انطلاقة جديدة في الحياة، ليكون الحلم محوراً لحياته ووسيلته للتحرر من إعاقته وإعاقة الحياة؛ فكانت أيامه مزهرة بالأحلام التي كانت تساعده على إجادة لعبة الحياة. وكانت رؤيته للألوان وعلاقته بها تختلف عن رؤية الآخرين لها، فكان يلوّن الأيام كل يوم بلون، وهذا ما كان يساعده على البدء دائماً بروح جديدة ومتجددة، لكنه رغم حبه للصداقة والأصدقاء الذين كانوا يحيطون به كان يترك بينه وبينهم مسافة تفصله عنهم ليستطيع أن يحافظ عليهم، وقليلون هم الأصدقاء الذين شكلوا قرباً حميمياً معه، فهو شخص محب، وكان يجسد هذا الحب بكل طيوفه عبر إبداعاته المتنوعة التي كان يتحايل فيها على قبح الحياة.
عاش وليد قارصلي حياته متمرداً على ذاته وعلى هزائمه، فلم يستكن لها يوماً، ولم يجعلها تقض من وجعه أكثر مما يحتمل، فكان يواجه كل هزيمة بإصرار أكبر على أن الحياة جميلة، وفيها مايستحق العمل لأجله، وقد رحل بعد أن ملأ حياته ألواناً وفرحاً، وبعد أن تجول في كل حارات دمشق القديمة، وهو قابع في غرفته التي حوّلها إلى مكان يستوعب كل الأشياء وكل الآخرين، رحل بصمت تاركاً ناسه الذين أحبوه ولوّن عالمهم بجمالياته للوعتهم وأساهم عليه، لكن لعل في ما تركه لهم من غنى وإبداع يبقيه في حناياهم إشراقة حب وومضة أمل.