ناس ومطارح.. رشا الصالح: الحياة بين باب شرقي والمتحف الوطني
تمّام بركات
طوال أكثر من عقد، وأقدامها تزرع الطريق نفسه، من “جرمانا” مروراً بـ”باب شرقي” ومن تحت قوسه الحجري المهيب، تدخل المدينة القديمة، مسحورة بأجواء الحكايات التي تشيعها حيطان البيوت الحانية، مفسحة عن أزقة عديدة، تتفرع فيها، ويفضي كل زقاق منها، إلى ليلة من الليالي الألف، تلك التي حاكت جدتها شهرزاد، شخصياتها وأحداثها، لتتابع رحلتها الراجلة، من “باب الحميدية” باتجاه ساحة “الحجاز” ومنها نحو “الحلبوني” -شارع المكتبات الدمشقي الشهير-، تقف لتلتقط أنفاسها تحت شجرة الكينا القديمة، المنتصبة في بداية الشارع، بينما تنمو ابتسامة رضا على وجهها.
أمام الواجهة الزجاجية لواحدة من مكتبات “الحلبوني”، ستقف رشا صالح مطولاً، تقبض بأصابعها على عدة قطع نقدية معدنية، وهي تنقل نظراتها بين أغلفة الكتب، تاركة لمشاعرها أن تختار لها كتاباً، تستعير الكتاب، وتقفل عائدة من الطريق نفسه، مع فارق في سرعة خطواتها، التي ترتفع على إيقاع لهفتها في الوصول إلى البيت سريعاً، للاختلاء بالكتاب وبدء رحلتها الخيالية الأمتع.
ما كان لعباً من ألعاب الخيال البارعة، في الأمس، أو ما ظنته لعباً في مرحلة مبكرة من حياتها، ما خبأت لأجله مصروفها من جدها وجدتها، مانعة نفسها من “الأكلات الطيبة” ودمى العرائس، ما لأجله قطعت مسافات طويلة ولسنين طويلة، كبر ونما مع نمو جدائلها، وصار ركناً أساسياً من شخصيتها ومن حياتها، ومن نفس الطريق، رفيقها القديم، من ذات الأمكنة التي شهدت على ما شغفها حباً، مضت نحو حياة رسمت تفاصيلها في أحلامها أولاً، وصار الكتاب الذي كان بيت سرها صبية، أحد أبرز الموجودين في حياتها، خصوصاً وأنها وجدت في نفسها القدرة على تأليفه، ما دفعها أيضل للعمل على إغناء المكتبة العربية، بالعديد من الكتب التي ترجمتها، واضعة خبرتها الطويلة في القراءة، لتكون دليلها المعرفي والوجداني على صوابية أسلوبها ولغتها.
تحكي رشا عن علاقة لا تعرف كنهها، تشكلت بمرور الأيام والسنين، مع الأماكن التي كانت تعبرها يومياً، والتي كانت تشعر بأن لها صوتاً يناديها إليها، فلا تجد نفسها إلا وقد صارت أمامها، حتى دون أن تكون تقصد ذلك.
من تلك الأماكن، تنزل الكنيسة “المريمية” منزلاً عظيماً في نفس رشا، فهي تقع في منتصف المسافة تقريباً، بين بيتها في “جرمانا” وبين مقصدها، شارع المكتبات والمتحف الوطني، وعلى مقعد خشبي، في باحتها الداخلية القديمة قدم الزمان، تجلس رشا بسكون، تاركة لكل مساماتها، أن تتشرب سحر المكان والحالة العاطفية الشديدة التي يحركها، وأنفاسها شبه مخطوفة، من التشكيلات الفنية الآخذة بالتشكل حولها، والناتجة عن المزيج النادر لعناصر الطبيعة، مع مكونات المكان؛ سماء زرقاء مشتبكة مع أغصان ياسمينة، غروب ناري يسكب الذهب المشتعل، على الحجارة البيضاء العتيقة، خبط أجنحة لعصافير عائدة إلى أعشاشها، يتقاطع مع خرير الماء في بحرة الباحة، وبهذه الزوادة الرفيعة، تتابع رشها سيرها، نحو “المتحف الوطني” المكان الذي جعلها تحيا تجارباً حسية فريدة، بالتاريخ السوري العظيم، المتمدد على طوله فوق أرائك من حجر، تسرد شخصياته كيف أن الشمس كانت ولا زالت، تشرق من بين حناياه، وبعد جولة متمهلة بين أروقته، تضع رشا ملاحظاتها على دفتر يومياتها، الذي سيصبح فيما بعد، من ركائز عملها الإبداعي ككاتبة ومخرجة سينمائية.
قسوة الظروف التي افرزتها الحرب، تركت أثرها بالتأكيد في دواخل رشا صالح، كما فعلت عند كل السوريين، الحالة الاقتصادية الصعبة، والوضع الأمني الخطير، كانت لتقضي على كل دفاعاتها النفسية، الرافضة لفكرة المغادرة، وكما كانت تفعل، في كل مرة ضاقت عليها الحياة فيها، تجد نفسها تمشي على الطريق ذاته، تستوقفها الأمكنة ذاتها، تبثها همومها، فعلت عندما صارت الخيارات أضيق من سم الخياط، وهناك أخذت قرارها حول ماذا ستفعل، بتأثير من وعيها القديم للحياة.
اليوم تجلس رشا خلف طاولة مكتبها، تقرأ ملاحظات الأمس، تتفقد البريد، وتبدأ يوم عملها في مكتبة “شمس” التي جعلتها مشروعها الشخصي والإنساني، وباعت لأجله ذهب عرسها،واضعة فيها ما كانت تفتقده في مكتبات الحلبوني، هناك كتب للبيع، وكتب للإعارة، كتب للتبديل، كتب مجانية، هناك كل ما يجعل القارئ لا يتردد في أخذ كتابه بقوة، حتى لو لم يكن يملك ثمنه، فالقراءة يجب أن تكون للجميع ودون أي معوقات مادية، كما تؤمن رشا.
تقول رشا: هذا إيفاء لدين قديم لهذه المدينة العظيمة وأهلها الكرام، يسرني أن أبقى أسدده أبدا.