تطورت صنعة مدرسة المخطوطات الإسلامية لتشمل الرسم والتصوير
فيصل خرتش
تكوّنت في العراق أوّل مدرسة للتصوير الإسلامي في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، واهتمت بتزويد ترجمات المؤلفات اليونانية، في الطب والطبيعة والنبات والحيوان، برسومات توضيحية، ثمّ ما لبثت أن تطورت صنعة الرسم والتصوير وشملت بعض الكتب الأدبية -مثل “كليلة ودمنة” و”مقامات الحريري”- برسوم تزيينية أظهر فيها الفنانون براعتهم في صياغة الأشكال الإنسانية والحيوانية على نحو متميز في القرن الثالث عشر الميلادي. وتعدّ صور المخطوطات التي أنجزها فنانو بغداد آخر مراحل فن التصوير العربي، وامتد هذا التصوير إلى بعض الجهات التي وقعت تحت الحكم الزنكي والأيوبي والمملوكي في بلاد الشام ومصر، ويمكن استعراض أهم المخطوطات المصورة التي أنجزت في سورية في القرنين 13 و14 الميلاديين، من ذلك مثلاً: “مقامات الحريري”، “الحيل الميكانيكية”، “كليلة ودمنة”، “الحيوان” للجاحظ، “كشف الأسرار” لابن غانم المقدسي.
انتشر هذا الفن في سورية ومصر والعراق والأندلس في القرون الوسطى، وقد استمدت صور هذه المخطوطات من المادة العلمية أو الأدبية الواردة في المخطوطات التي يراد تصويرها، والتي تعكس الأفكار والعادات الاجتماعية وأشكال الشخوص والكائنات والأزياء والمباني التي سادت في القرن 13 و14 الميلاديين. وظهرت معظم الأشكال المصورة بصبغة واقعية مبسطة دون تكلف في الرسم أو جنوح في الخيال أو إمعان في التزويق والزخرفة، وقد حفلت هذه التصاوير بأشكال إنسانية ذات ملامح شرقية، فالرجال يظهرون فيها قنى الأنوف، ذوو لحى سوداء، تظهر عليهم ملامح النشاط، ولا تبدو عليهم الرشاقة والدعة وغيرها من الملامح التي نجدها في الأشكال الإنسانية التي تظهر في المنمنمات الفارسية أو المغولية. ويلاحظ في التصوير تشابه كبير لأسلوب التصوير السائد لدى مسيحيي الكنيسة الشرقية، حيث تحيط أكاليل النور وهالات القديسين برؤوس بعض الأشخاص، وتبرز أشكال الأنوف بخطوط بارزة من اللون، وتصاغ الملابس المزركشة والمزينة بالزهور والزخارف النباتية وأشكال الملائكة ذوي الأجنحة المدببة، وفروع الأشجار والأشكال النباتية، بأسلوب نمطي يشبه أسلوب التصوير المسيحي الشرقي، ما دعا بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن هذه الصور نفذها رجال مسيحيون.
اعتمد المصورون على التكوين الإيقاعي الذي يستند على رهافة الفنان وخبرته في توزيع عناصر العمل الفني، بما في ذلك الخطوط والألوان والسطوح، بحيث تتكوَن الأشكال من خطوط داكنة وألوان وزخارف نباتية وكتابية، دون تداخل أو تدريج في نغمات اللون، أو تباين في إيقاعات الظلَ والنور، كما هو الحال في التصوير الغربي.
عادة ما تكون الأشكال مسطحة ولا تخضع للتجسيم وتتوزع في أرجاء اللوحة وفق أهميتها، وغالباً ما تكون الوجوه البشرية شبه أمامية، بينما تبدو رؤوس الدواب والماشية في أوضاع جانبية، وهناك بعض المحاولات لإعطاء أشكال الأبنية بعداً ثالثاً دون إدراك لمفاهيم المنظور الأوروبي.
تتنوَع الألوان وتتوزع وفق المعايير الجمالية، ويبدو الاهتمام واضحاً بالألوان الذهبية والزرقاء على الأرضية البيضاء، بينما تبدو الخطوط أكثر عاطفية وعفوية وأقل رهافة من تلك التي نجدها في التصوير الفارسي أو المغولي. كما نجد الفنان يستعين بكل العناصر والمفردات الفنية من أجل تجسيد أفكاره ووضعها ضمن إطارها الملائم، معتمداً في ذلك على الأشكال الآدمية والحيوانية والنباتية والمعمارية، بالإضافة إلى الزخرفة الهندسية أو النباتية وأنماط الكتابة العربية التي تتجلَى في الخطين الكوفي والثلث. ويرى بعض الباحثين أنَ التصوير العربي لجأ إلى تقديم فراغ شاقولي عوضاً عن الفراغ الأفقي الذي يعتمده الغربيون، حتى يتمكن الفنان من تقديم شخوصه في سلسلة تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، وقد أطلقوا على ذلك المنظور الحلزوني الشاقولي.
ويبدو أنَ الأيوبيين الذين خلفوا السلاجقة في حكم بلاد الشام تابعوا مسيرة أسلافهم في تشجيع فن التصوير، فظهرت في عصرهم بعض التأثيرات البيزنطية بالإضافة إلى العناصر السلجوقية.
في القرن الثالث عشر الميلادي، تأثر تصوير المخطوطات بالأساليب التقليدية السائدة، ويتضح ذلك من نسخة من مخطوطة لـ”مقامات الحريري” صورت في عام 619 هـ (1223 م)، وتعود نسبتها إلى سورية؛ ونشاهد في إحدى الصور فريقاً من الحجاج يسعون إلى أبي زيد السروجي. ويلاحظ في رسم الأشخاص تأثر الفنان بالمخطوطات البيزنطية التي كانت موجودة في سورية، كما نلاحظ إغفال الخلفية وعدم توضيح الأرضية، ويظهر الأشخاص بسحنة عربية بعيدة عن الشبه السلجوقي، وثمة مخطوطة محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس تمَ تصويرها في سورية في العصر الأيوبي تزين كتاب “كليلة ودمنة”، وتصور أحداثاً تدور في عالم الحيوان، ويبدو فيها التأثر بالفن الساساني.
وقد ذكر أحمد تيمور في كتابه “التصوير عند العرب” أسماء عدد من المصورين السوريين، نذكر منهم:
– عبد الرحمن بن أبي بكر، ويعرف بابن الحبَال، مات في دمشق ودفن في الصالحية عام 861 للهجرة.
– محمد الدمشقي، له بدار الآثار لوح من القيشاني عليه صورة مكة المكرَمة والكعبة المعظمة، صورها سنة 1139 ميلادية، وكتب عليها اسمه.
– أحمد الحلبي، وكان يصنع الأوضاع العجيبة، ويبرع في النقش والتزميك، وأولع بصنع الأوضاع المستحسنة في الأوراق الذهبية، توفي عام 738 للهجرة (1337 للميلاد).
– أبو بكر الجلومي الحلبي، وهو شيخ مسن خدم أساتذة من الأعاجم واستفاد منهم، مهر في نقش البيوت وكتابة الطرازات على طريق القاطع والمقطوع، وفي نقوش ما كان لكفال حلب، وغيرهم من الرماح والسروج بالذهب واللازورد، مع معرفة حلّه، وفي صنعة التركاش وضعاً ونقشاً، وصنعة اللوح الذي يكتب فيه، وصنائع أخرى تتمّ على عشرين صنعة، وتوفي سنة 970 للهجرة.