جراء العقوبات والحصار.. تدهور أرقام الميزان التجاري خلال عقد! الصادرات من 10 مليار دولار إلى ما دون الـ750 مليون.. والمستوردات من 19 مليار إلى أقل من 5 مليارات!
البعث الأسبوعية – حسن النابلسي
انعكس ما عانته سورية من حالة عدم استقرار على المشهد الاقتصادي ككل خلال ما يزيد عن عقد من الزمن، وبطبيعة الحال لم تكن التجارة الخارجية بمنأى عن ذلك، إذ تأثرت “استيراداً وتصديراً” متراجعة إلى مستويات لم تكن معهودة عام 2010 وما قبل.
إذا ما تحدثنا بلغة الأرقام سنلحظ مدى الأثر السلبي الذي طال التجارة الخارجية خلال العشر سنوات الماضية، فبحسب بحث حمل عنوان “تحليل الوضع الراهن للتجارة الخارجية لسورية 2022” استند في مرجعيته على البيانات المعتمدة في التحليل مأخوذة من قاعدة البيانات العالمية comtrade وفق نمط meror data -كونه يوفر بيانات أحدث ما يمكن عن المبادلات التجارية- يتبين لنا أن المستوردات السورية في عام 2010 كانت ما يقارب الـ19 مليار دولار، وتعرضت لتراجع مستمر لتصل أقل قيمها في عام 2016 لأقل من 5 مليار دولار.
وأظهر البحث الذي أعده الباحث إيهاب اسمندر، أن المستوردات عادت لترتفع قليلاً في عام 2017 ووصلت إلى 6.3 مليار دولار، وشهدت ارتفاعاً آخر في عام 2018 إلى 6.8 مليار دولار، لتعاود الانخفاض إلى أقل من 5 مليار دولار في 2020، لتشهد عام 2021 ارتفاعاً بسيطاً لتصل إلى 5.3 مليار دولار.
تذبذب
تعكس معدلات النمو السنوية خلال الفترة المدروسة الممتدة من 2016 وحتى العام 2021، مع أخذ العام 2010 كعام مقارنة لحالة البيانات التي كانت عليها التجارة الخارجية السورية، حالة تذبذب المستوردات السورية، فبعد تراجعها بنسبة -74% بين عامي 2010 وعام 2016، حصل نمو إيجابي بحوالي 29% في عام 2017، ثم نمو آخر بحوالي 9% في عام 2018، ليتحول معدل النمو إلى سلبي -5% في عام 2019، ثم حصل تراجع كبير -23% في عام 2020 ليعود معدل النمو إلى إيجابي 6% في عام 2021.
وعلى صعيد السلسلة ككل، كانت المستوردات السورية تنخفض بحوالي -11% بشكل سنوي، مع الإشارة هنا إلى أن المستوردات السورية تشكل ما نسبته 28% مما كانت عليه في عام 2010، وبالتالي فإن هذا التراجع يعكس حالة عدم الاستقرار الاقتصادي التي عاشتها سورية خلال هذه الفترة.
ويبين الباحث أن تأثير الحرب التي عاشتها سورية خلال السنوات السابقة كان كبيراً على تركيبة مستورداتها، ففي عام 2011 كانت أهم المواد المستوردة (الوقود المعدني، الآلات، العربات، الحديد، البلاستيك، التجهيزات الكهربائية، الحبوب)، في حين أصبحت في عام 2021 (مواد غير مصنفة، التبغ، البلاستيك، الآلات، الزيوت الحيوانية والنباتية، الوقود المعدني، الآلات الكهربائية)، مشيراً إلى ازدياد استيراد المواد الكمالية كالتبغ مثلاً!
ما يثير الأسف
لعلّ الحديث عن تراجع الصادرات السورية يثير الأسف نظراً لخسارة القطع الأجنبي كمورد داعم لسعر الصرف، إذ يبين البحث أن قيمة الصادرات لسورية وصلت في عام 2010 ما يقارب 9 مليار دولار، لتنخفض إلى أقل قيمها في عام 2018 مسجلة 736 مليون دولار، لترتفع قليلاً في عام 2019 وتصل إلى 750 مليون دولار، وإلى 943 مليون دولار في عام 2020، وإلى أكثر من مليار بقليل عام 2021.
وتعكس معدلات النمو السنوية خلال الفترة المدروسة حالة تذبذب الصادرات السورية، فبعد تراجع بنسبة تقارب -91% بين عامي 2010 وعام 2016، حصل تراجع آخر في عام 2017 بنسبة -3%، ثم تراجع بنسبة -8% في عام 2018، ليتحقق أول نمو إيجابي في عام 2019 بنسبة 2%، لكن النمو الأبرز خلال السلسلة حصل في عام 2020 بنسبة تقارب 27% ثم حصل نمو أقل في عام 2021 يبلغ حوالي 9%، وعلى صعيد السلسلة ككل كانت المستوردات السورية تنخفض بحوالي -30% بشكل سنوي.
وأظهر البحث أن الصادرات السورية تشكل في عام 2021 ما نسبته 12% مما كانت عليه في عام 2010، ويعكس هذا التراجع أيضاً حالة عدم الاستقرار الاقتصادي التي عاشتها سورية خلال هذه الفترة.
السيطرة للنفط
ويبين الباحث سيطرة النفط بشكل كبير على الصادرات السورية حيث كان يشكل 50% منها في عام 2010، يليه الخضار والفواكه بالمرتبة الثانية بنسبة 4% لكل منها، ثم المنتجات البلاستيكية والصابون والقطن الخام بحوالي 3% لكل منها، بعد ذلك منتجات الألبان والحلويات والملابس والحيوانات الحية بحوالي 2% لكل منها.
في حين كانت تصدرت الخضار والفواكه تركيبة الصادرات عام 2021 بنسبة 31% لكل منها، ثم الزيوت والشحوم النباتية والحيوانية في المرتبة الثانية بنسبة 12%، بعدها أتت البهارات والقهوة والشاي، الملح والجير الصخري بحوالي 7% لكل منها، والخضار والفواكه المحضرة بحوالي 6%، واكسسوارات الملابس 4%، فالقطن الخام حوالي 3%، وحبوب زيتية، ومواد حجرية حوالي 2% لكل منها.
إذا ما علمنا أن شروط التبادل التجاري يقاس بمعدل متوسط أسعار الصادرات على متوسط أسعار الواردات، وأن شروط التجارة لبلد ما تتحسن إذا ارتفع هذا المعدل وتسوء حين ينخفض، فإن الباحث يبين في هذا السياق أن شروط التبادل التجاري لم تكن لمصلحة سورية حتى العام 2015، ونجم ذلك عن انخفاض قيمة وحدة الصادرات عن وحدة المستوردات، فمن الملاحظ تراجع شروط التبادل التجاري لسورية بعد العام 2011 بشكل مستمر حتى بلغ أدنى حد له في عامي 2013 و2014، وفي عام 2015 حصل تحسن ملحوظ، لكن التحسن الأبرز كان في عام 2016، بعدها تعود شروط التبادل إلى الانخفاض حتى العام 2021، لكنه ما زال إيجابياً بشكل جيد.
ويضيف الباحث أن إيجابية شروط التبادل التجاري شيء مهم لأي دولة، لكنه في حالة سورية وبالنظر إلى قائمة أهم المستوردات، ناجم عن استيراد المواد الأساسية فقط تقريباً، بات الاقتصاد السوري بحاجتها، وتركيزه عليها، وهذه بحد ذاتها ظاهرة غير إيجابية، ناجمة عن ضعف النشاط الاستثماري وقلة الإنتاج مع تراجع الدخول!
عجز مستمر
في وقت يعدّ فيه الميزان التجاري من المؤشرات المهمة في التجارة الخارجية لأي دولة، نجد أن الميزان التجاري لسورية خلال الفترة المدروسة كان يعاني من عجز وصل إلى أكثر من 10 مليار دولار في العام 2010، لكنه تراجع خلال السنوات السابقة بسبب تراجع حدي التبادل التجاري، وقد سجل الميزان التجاري أقل خسارة له في عام 2020 “حوالي 4 مليار دولار”، وكانت أعلى خسارة خلال سنوات الحرب في عام 2018 “حوالي 6 مليار دولار”، وبالتالي فإن الاتجاه العام للعجز في الميزان التجاري يأخذ منحى متناقص، كتعبير عن تراجع القدرة الاستيعابية للاقتصاد السوري من المستوردات، وهنا يشير الباحث إلى أن السمة الملازمة للميزان التجاري السوري هي أنه دائماً خاسر!
أثرهما على الإجمالي
وأشار الباحث إلى تأثير المستوردات السورية على الناتج المحلي الإجمالي، لجهة مساهمتها بتوفير المواد الضرورية للعملية الإنتاجية، كالسلع الرأسمالية والمواد الوسطية مما يؤدي إلى تحسين الإنتاجية المحلية ورفع مستوى الإنتاج وبالتالي تحسين معدلات النمو الاقتصادي، كما أنها تعتبر من أهم طرق نقل التكنولوجيا إلى الاقتصاد الوطني، وهناك نظرة في الأدبيات الاقتصادية لاعتبار المستوردات من عوامل التسرب في اقتصاد الدولة، ليخلص إلى أن هناك علاقة قوية بين المستوردات السورية والناتج المحلي الإجمالي لسورية خلال فترة الدراسة وهذه العلاقة القوية تعني أن قسم كبير من تراجع الناتج المحلي الإجمالي كان من المستوردات وطبيعتها.
في المقابل فإن تأثير الصادرات على الناتج المحلي الإجمالي يكون من خلال انعكاسها على المزيد من التخصص الإنتاجي في الدولة، وهي من أهم مصادر القطع الأجنبي بالنسبة للدولة، وتهيئ الصادرات الفرصة للاحتكاك بمنتجات الأسواق العالمية، مما يرفع نوعية المنتجات المحلية لتواكب متطلبات الأسواق العالمية، وتجذب الصادرات الاستثمارات الأجنبية إلى القطاعات الإنتاجية التي تمتلك فيها الدولة ميزة تنافسية.
وأشار الباحث إلى أن معامل التحديد النظري للعلاقة بين الصادرات والناتج المحلي الإجمالي لسورية خلال الفترة المدروسة يصل إلى (0.59) مما يعني أن تراجع الصادرات السورية كان أحد أهم أسباب التراجع الحاصل في حجم الناتج المحلي الإجمالي لسورية خلال الفترة المدروسة.
استخدم الباحث مؤشر الميزة النسبية الظاهرة (RCA) لقياس الميزة النسبية الظاهرة لسورية في إنتاج وتصدير سلعة معينة، وتبين بموجب هذا المؤشر أن الصادرات السورية كانت تتمتع بميزة نسبية في حوالي 98 مجموعة تصديرية حتى العام 2010، لكنها فقدت ميزتها النسبية الظاهرة في تصدير 10 مجموعات تصديرية، من أهمها اللحوم، الأسمدة، الحرير، المصنوعات من الريش والزهور الاصطناعية، النيكل، الزنك والمعادن.
وبين الباحث أنه بالرغم من محافظة سورية على ميزتها النسبية في القسم الأكبر من صادراتها إلا أنها تفقد تدريجياً هذه الميزة في 57 مجموعة تصديرية، فهناك مجموعة من المواد الواعدة تصديرياً والتي تحتاج إلى اهتمام خاص للاستفادة من ميزتها النسبية الظاهرة التي تتمتع فيها سورية بالرغم من أحداث السنوات الأخيرة، مثل منتجات الألبان والحليب، العسل الطبيعي، الخضار والفواكه، البذور الزيتية، الزيوت النباتية والحيوانية، الحلويات، محضرات الحبوب، الصابون، الأقمشة، الشرقيات.
نتائج ومقترحات
خلص الباحث إلى نتائج أبرزها أن الصادرات والمستوردات السورية اتصفت خلال سنوات الحرب بالتذبذب والتراجع المستمر، وأن التذبذب والتراجع الحدي للتبادل التجاري يعكس حالة الانكماش الاقتصادي السوري ككل.
ومن النتائج أيضاً أن هناك تركز عالي من الناحية الجغرافية في المستوردات السورية “58% في عام 2021″، وتركز أكبر في جانب الصادرات “67% في عام 2021″، وهذا يزيد مخاطر على التجارة الخارجية السورية مرتبطة بحالة الشركاء التجاريين، إضافة إلى تغيير تركيبة الصادرات السورية فبعد أن كان النفط هو المادة الأساسية فيها حتى العام 2011، أصبحت الخضار والفواكه الطازجة هي المكون الرئيسي فيها.
ولعلّ من أبرز النتائج أيضاً هو أنه بالرغم من إيجابية شروط التبادل التجاري السوري في السنوات الأخيرة فهو يعكس انخفاض في نوعية المواد المستوردة أكثر منه قيمة مضافة عالية في المواد المصدرة، وأن هناك ميزة نسبية ظاهرة في الصادرات السورية لكن الاستفادة منها لن تكون تلقائية.
وعرض الباحث مقترحات عدة أبرزها التوجه نحو زيادة المستوردات السورية من سلع التجهيز والمواد اللازمة للصناعة في إطار برنامج تعزيز القدرة الإنتاجية لسورية، وتشجيع الاستثمار في المنتجات التصديرية التي تمتلك فيها سورية ميزة نسبية ظاهرة، والاهتمام ببرامج التسويق لها، وزيادة القيمة المضافة في الصادرات السورية والوصول فيها إلى أعلى حد ممكن، والتقليل قدر الإمكان من الصادرات على شكل مواد غير مصنعة، والاستفادة من رغبة الأسواق العربية لاسيما المجاورة لسورية، في زيادة حجم الصادرات السورية بعد تهيئة اتفاقيات تسهيل انسياب البضائع معها، والتعاون مع الجالية السورية في بلدان الاغتراب للترويج للمنتجات السورية في تلك البلدان.