الصين.. قوة ناعمة
د. معن منيف سليمان
تنطلق الدبلوماسية الناعمة التي تتبعها الصين من السعي للإقناع لا الإكراه في جذب الآخرين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والاعتماد على المنفعة المتبادلة بين الشركاء. فتستخدم الثقافة، والاقتصاد، والأعمال الخيرية والتمويل، ودعم الدول الفقيرة والمنكوبة، كما أنها تشارك في أعمال المنظمات الدولية ما يقلّل من المخاوف الدولية من تنامي صعود الصين.
كما استخدمت الدبلوماسية الصينية الناعمة أدوات أخرى، منها دبلوماسية الزيارات والوفود، التي تهتمّ بزيارات واسعة في جميع أرجاء العالم. كما تستخدم دبلوماسية القمم، ودبلوماسية الخط الساخن، ودبلوماسية الإنترنت، والدبلوماسية الاقتصادية التي تعطيها دوراً مهمّاً في خلق بيئة مناسبة للاستثمارات الصينية الخارجية، وكما تعزّز التعاون بينها وبين دول العالم، على أساس تبادل المنفعة.
وتطمح الصين إلى توسيع نفوذها الاقتصادي عالمياً، وضمان أمن الطاقة وإيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها، وخاصة في ظلّ الصراع الدائر بينها وبين الدولة التي تعدّ أكبر سوق استهلاكي للصين وهي الولايات المتحدة، فتحاول ملء فراغ الطلب على المنتجات الصينية، في حال خلقت واشنطن حرباً تجارية معها. أما أمنياً فتحاول بكين توسيع نفوذها وقوتها في محيطها، على حساب الوجود الأمريكي. وتجلّى ذلك بصراعها الذي أخذ شكل حربٍ باردة في بحر الصين الجنوبي وعلى جزيرة تايوان، وهنا استخدمت الدبلوماسية الناعمة، والدبلوماسية الصلبة بالمناورات والتهديد باستخدام القوة.
وبالإضافة إلى ذلك، تحاول الصين تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية، وبناء عصر جديد للبشر، يرتكز على رؤية عالمية تستهدف بناء عالم يستند على الأخلاق والعدالة والمساواة، والمنفعة المتبادلة. لهذا تسعى بكين إلى توسيع نفوذها وزيادة شراكاتها، لمواجهة الحضارة الأمريكية، لمصلحة حضارتها الصينية، وانطلقت بكين بإنشاء طريق الحرير الجديد، الذي سيفتح لها سوقاً ضخماً، كما قامت بعمل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ناهيك عن توسيع دائرة شراكاتها الإستراتيجية تجاه الدول النامية والكبرى حتى العظمى.
أطلقت بكين المشروع الاقتصادي الضخم (حزام واحد، طريق واحد)، عام 2013، لتحقيق أوسع دائرة تعاون اقتصادي مع دول العالم، ويمتد ذلك المشروع من المحيط الهادئ إلى آسيا والشرق الأوسط وصولاً لقارة أوروبا. واستعدت الصين لضخ مليارات الدولارات من أجل إتمام إنشاء طريق الحرير الجديد، إذ أعلنت عن دعم ذلك الطريق بِـ1200 مليار دولار خلال 35 عاماً. كما قامت بإنشاء صندوق طريق الحرير عام 2014، وضخت به 40 مليار دولار. ويعدّ مشروعا طريق الحرير الجديد والبنك الآسيوي أحد أهم أدوات القوة الناعمة الصينية، حيث يظهر حجم تسارع انضمام الدول باختلاف مناطق العالم لتلك المشاريع.
وتستهدف بكين منذ السبعينيات تحسين صورتها وإلغاء الصورة الذهنية التي تربط بين الصين والعزلة والانغلاق، من خلال نسْج وتطوير العلاقات مع كلّ الدول باختلاف نفوذها، إضافةً إلى شغل دور في القضايا الخلافية الكبرى، مثل أزمة ساحل العاج، وقضية السودان وغيرها. وقد حاولت إصدار ما يُعرف بـ(الكتاب الأبيض)، الذي يعرض وجهة النظر الصينية حول مختلف القضايا التي تشغل الساحة العالمية، لتعزيز آرائها وترسيخ وتأكيد وجهات نظرها. وعليه، فخلال العقدين من بداية الألفية الثانية، أصدرت الصين أكثر من ثلاثين وثيقة في مختلف الموضوعات، من بينها (قضايا حقوق الإنسان، والتوزيع السكاني، وجزيرة تايوان والتبت).
وأضحت الصين أكثر اهتماماً بطرح مبادرات علنية لحلّ الأزمات الدولية، ففي شباط 2021، أصدرت بكين مبادرة الأمن العالمي، التي اقترحها الرئيس الصيني، وتهدف إلى القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية، وتحسين حوكمة الأمن وتشجيع الجهود الدولية المشتركة لتحقيق الاستقرار في عصر متقلب ومتغيّر، وتعزيز السلام الدائم والتنمية في العالم. كما أطلقت الصين خطتها المقترحة للتسوية السياسية للصراع في أوكرانيا، حيث تراهن على نجاحها في الملف الأوكراني بعد النجاح الدبلوماسي الكبير الذي تحقَّق مع الإعلان عن توصل السعودية وإيران بوساطة صينية، في 10 آذار الفائت، إلى اتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ عام 2016، ما يؤكد أنها قوة استقرار، وأن لها مصلحة في الحفاظ على أمن العالم واستمراره بقيمه وقواعده الحالية، ما من شأنه تعزيز قوتها ونفوذها الدولي.
لقد شكّل الاتفاق أهمية للصين لسببين: الأول، ممارسة القوة الناعمة وتوسيعها، فرعاية الصين الاتفاق لم تكن بفعل أي ضغط مورس عليها للاختيار بين أحد الأطراف. وفي الأصل، تعدّ الصين أكثر جذباً للأنظمة السياسية في الشرق الأوسط من الغرب، لأن المبدأ الرئيسي في سياسة الصين الخارجية احترام سيادة الدول وقراراتها وطبيعة أنظمتها، على عكس الولايات المتحدة التي كانت السبب الرئيسي في عدم الاستقرار الإقليمي، وهنا تكسب بكين قوة ناعمة نسبية على واشنطن.
لقد تطوّرت إستراتيجية الصين وأصبحت تُعرف بصعود الصين السلمي، حيث أرادت من خلالها التأكيد على أنها لا تسعى إلى السيطرة. والتزم الخطاب الصيني في كلّ المؤتمرات الوطنية للحزب الشيوعي بصيغة واحدة، أن الصين “ترفض جميع أشكال السيطرة وسياسات القوة، ولن تسعى أبداً إلى السيطرة أو التوسّع، وإن أية سيطرة في المستقبل سوف تكون مقبولة إذا كانت محمودة”.