“هبّة” الجولانيين في وجه الكيان الصهيوني ملامح انتفاضة في مشروع الطوق المقاوم تقلب موازين المعادلة
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
شكل المزاج الشعبي لأبناء الجولان السوري المحتل صدمة كبيرة للكيان الصهيوني الذي حاول جس النبض من خلال إقامة مشروع “التوربينات”، فشهدت قرى الجولان يومين متتاليين من الاشتباكات العنيفة والتظاهرات المناوئة لمشروع المراوح الهوائية التي تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية فرضها على أهالي الجولان، وزرعها في أراضيهم الخاصّة.
منذ أن احتلّت “إسرائيل” الجولان السوري بعد حرب حزيران عام 1967، شرعت في طمس معالم الجولان في خطوة تجسّد الفكر الاستيطاني عبر تنفيذ مخطّطات من أجل خلق واقع ديموغرافي وسياسي واجتماعي واقتصادي، ولعل من أبرز تلك المخططات هي السيطرة على الأراضي لتشييد المستوطنات، ونقل المستوطنين إليها، علماً أن الأراضي في الجولان المحتل هي أملاك خاصة للسكان.
وعلى مدى حكومات الاحتلال المتعاقبة، تم اتباع سياسات متشابهة من حيث المضمون خدمةً للمشروع الاستيطاني، ومن أبرز تلك المشاريع كان إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين، حيث أصدرت سلطات الاحتلال مجموعة من القرارات، ومن بينها في 14 حزيران 1967، حين أعلنت أن منطقة الجولان بأكملها “مساحة مغلقة”، ويحظر على الأشخاص دخولها أو الخروج منها، بصرف النظر عن هويّتهم، وذلك لتعزيز الوضع القائم بعد احتلال الجولان، الأمر الذي مكّن السلطات من إفراغ المنطقة وتهجير سكانها. وفي 4 تموز 1967، تم الإعلان أن مدينة القنيطرة هي منطقة عسكرية مغلقة، وذلك تطبيقاً لقانون الكنيست الصهيوني الصادر عام 1950 المسمى “قانون أملاك الغائبين”، لتنظيم السيطرة على أملاك الغائبين تحت غطاء قانوني.
صمود وتحدي
برغم ما تقوم به سلطات الاحتلال الصهيوني، لا تزال الهويّة الاجتماعية والثقافية لأهل الجولان متماسكة، بدليل تلك “الهبّة” التي قام بها الجولانيون السوريون في وجه المشروع الصهيوني التوسعي الذي أثبت مجدداً أن اعتداءات قوات الاحتلال في الجولان ليست إلا امتداداً لسياسات هذا الكيان العدوانية وجرائمها، والتي تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، وللقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولأحكام ميثاق الأمم المتحدة. وهو بالتالي ما يؤكد أن هذا الاحتلال إلى زوال، وكل مشاريعه ومخططاته الاستيطانية غير الشرعية باطلة، لأنها تشكل انتهاك صارخ لقرار مجلس الأمن رقم 497 لعام 1981، الذي يعتبر قرار “إسرائيل” الخاص بفرض قوانينها وولايتها القضائية وإدارتها على الجولان لاغياً وباطلاً، وليس له أثر قانوني دولي، أي أن الجولان كان وسيبقى جزءاً لا يتجزأ من أراضي سورية، وعودته كاملاً إلى الوطن آتية لامحالة باعتباره حقاً أبدياً لا يسقط بالتقادم.
وما يعزز هذا الحق هو دفاع أهالي الجولان السوري المحتل عن هويتهم وهوية أرض الجولان السورية، رغم دأب هذا الكيان خلال ما يزيد عن نصف قرن على دمجهم في ما يسمى بـ”المجتمع الإسرائيلي”، ولعل المظاهرات الأخيرة شكلت ضربة قوية للاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لسلب سكان الجولان مكانتهم وتاريخهم وموقعهم بالمواجهة المباشرة، أو التسلل إلى داخلهم في برامج ومشاريع صامتة، مراهناً على ذاكرة أهالي الجولان، والمحاولات الفاشلة لتفتيت وضرب النسيج الاجتماعي.
يذكر أن الكيان إسرائيلي احتل الجولان السوري في حرب عام 1967، وضمه سنة 1981، في خطوة لم تلق أي اعتراف دولي بها حتى الآن، فيما رفض أهل الجولان “الهوية الإسرائيلية”، ويؤكدون تمسكهم بهويتهم العربية السورية حتى زوال الاحتلال.
صدمة الكيان الصهيوني
لم تكد “اسرائيل” تخرج من صدمة “كمين” جنين، والعمليّة النوعيّة قرب مستوطنة “عيلي” بالضفّة الغربية، حتى جاءت صدمة الكيان بانتفاضة الجولانيين السوريين، حيث تظاهر الآلاف بقرية مسعدة شمال الجولان المحتل لمنع الحكومة الإسرائيلية من أعمال بناء “التوربينات” ما أدى إلى مواجهات أسفرت عن إصابات من الجانبين.
بغض النظر عن التبعات السلبية لمشروع “التوربينات” لجهة مصادرة الأراضي الزراعية، فالمظاهرات التي قام بها السوريون في الجولان المحتل هي تعبير داخلي وشعبي عن رفض السياسات الصارمة والتشريعات التمييزية التي تمارسها سلطات الاحتلال بحقهم، وهو ما استدعى الاستنفار على أعلى المستويات في إدارة الكيان الصهيوني الذي استشعر الخوف نتيجة الأحداث التي جرت في الجولان المحتل والجنوب اللبناني، خاصةً وأنها تزامنت مع العمليات الفدائية المقاومة في الداخل.
هذا الخوف والقلق انتقل إلى الائتلاف بقيادة نتنياهو الذي يواجه العصيان المدني على الاصلاحات القضائية التي تحميه من المحاسبة القانونية على فساده، ليضيف أزمة أخرى على هذا الكيان المتفكك. صحيح أن في ظاهر الأمر لا يوجد ارتباط في كل ما يجري( المظاهرات المناهضة للاصلاحات القضائية- عمليات المقاومة- هبّة الجولانيين- اختراق الحدود من جانب المقاومة اللبنانية ) إلا أن هناك عامل مشترك يربط بينها جميعاً وهو رفض الجميع لهذا الكيان الصهيوني المحتل.
وهو ما يعني بالضرورة، أن دورة المقاومة والرفض لسياسات الكيان المحتل ستستمر بمحاولات على الجانب الفلسطيني، وعلى كل الجبهات من الجنوب اللبناني إلى الجولان السوري المحتل الذي كان بمثابة الشعرة التي ستقصم ظهر البعير حين أعلن سكان قرى الجولان المحتل أنهم سيقاومون بالقوة نصب توربينات الرياح على أراضيهم، وكل المشاريع التوسيعية الصهيونية، وسيردون بالعنف إذا تم تركيب التوربينات، وهو ما يدلل على أن المزاج الشعبي للجولانيين في ارتفاع دائم وتحديداً تجاه قانون ما يسمى “الدولة القومية”.
إن استفزاز أهالي الجولان هو جزء من معركة أوسع للكيان الصهيوني، وإن قرار الحكومة والجيش الإسرائيلي التوقف مؤقتاً عن مشروع التوربينات ليس إلا خدعة أخرى من هذا الكيان المحتل، لكن هذا الكيان لا يدرك أن أي خطوة قادمة ستؤدي إلى صدام عنيف أوسع نطاقاً نتيجة لمقامرة الكيان الخاطئة.
إن مشروع الطوق المقاوم الذي يحاصر الكيان المؤقت ويقلقه، والذي كان يطمح الى تحقيقه الشهيد الفريق قاسم سليماني، يتجسد اليوم في كافة الساحات وبكل أساليب المقاومة. فبالتزامن مع ما يحصل من تصاعد لعمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، تحرك أهالي الجولان المحتلّ بتحركات غاضبة. هذه التحركات بطريقة غير مباشرة، تضع سلطات الاحتلال أمام ساحة توتر جديدة، مضافة الى باقي ساحات وجبهات المقاومة المفتوحة، وستؤثر بالتأكيد على أصحاب القرار في الكيان، وتُربك حساباتهم وتدفعهم الى ارتكاب المزيد من الأخطاء، التي لن تصب إلا في صالح محور المقاومة.
الجولان في الذاكرة
تقع مرتفعات الجولان المحتل على مساحة 1800 كم مربع على الحدود الفاصلة بين فلسطين المحتلة وسورية، وبالرغم من الاحتلال الإسرائيلي الحالي لها، فقد كانت تحت السيادة السورية حتى حزيران 1967.
لم تشهد المناطق الحدودية سوى بعض المناوشات المتفرقة وتبادل إطلاق النار منذ احتلال “إسرائيل” للجولان في 1967. الصراع الرئيسي الوحيد الذي اشتعل بين دول المنطقة منذ احتلال الجولان هو حرب 1973. خلال هذه الحرب، وجدت “إسرائيل” نفسها في مواجهة جبهتين عربيتين مسلحتين بأحدث الأسلحة القادمة من الاتحاد السوفييتي السابق، حيث نشبت معركة قوية بين القوات الإسرائيلية والسورية في مرتفعات الجولان، ولو لم تتلق “إسرائيل” آنذاك الدعم العسكري الأمريكي على الفور لخسرت الحملة العسكرية بأكملها، وليس الجولان فحسب.
بموجب القانون الدولي، إن احتلال “إسرائيل” لمرتفعات الجولان غير قانوني، وللتأكيد على ذلك من الضروري الرجوع إلى ثلاثة من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: قرار مجلس الأمن 242 (1967)، وقرار مجلس الأمن رقم 338 (1973)، وقرار مجلس الأمن 497 (1981).
تدعو الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن رقم 242 بوضوح إلى “انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية” من المناطق المحتلة خلال حرب الأيام الستة، وهي شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. كما يدعو قرار مجلس الأمن رقم 338، الذي مُرر خلال حرب تشرين، الأطراف المتنازعة إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 “بجميع أجزائه”.
أما قرار مجلس الأمن رقم 497 فيذهب إلى أبعد من ذلك ويسلط الضوء بوضوح على عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للجولان قائلاً: “يعتبر قرار إسرائيل بفرض قوانينها وسلطاتها وإدارتها في مرتفعات الجولان السورية المحتلة مُلغًى وباطلاً ومن دون فعالية قانونية على الصعيد الدولي”.
عزز قرارا مجلس الأمن 242 و338 خصيصاً مبادرات السلام منذ تمريرهما، إذ استُخدم كلاهما لإضفاء الشرعية على مطالب العرب في خطط السلام مثل مشروع فاس 1982 ومبادرة السلام العربية 2002، ورفضت “إسرائيل” كلا المشروعين، بل الأكثر من ذلك أن خطط الكيان الصهيوني تركز على جذب 23 ألف مستوطن للسكن بالجولان حتى العام 2030 لطمس هويتها العربية السورية.
لكن رغم كل الخططات الصهيونية، فإن التاريخ الذي لا يستطيع الكيان الصهيوني مسحه من الذاكرة هو أن تاريخ إعمار الجولان واستقرار السكان فيها يعود إلى العهد الكنعاني، واستمر دون انقطاع مع حركة مد وجزر سكاني، حتى تهجير أهله منه عام 1967 بعد احتلاله، فسكان الجولان الأصليون أحفاد قبائل عربية. ومنذ عام 1878، عرفت الهضبة إعماراً أكثر تطوراً وثباتاً في العهد العثماني، بالإضافة إلى استقرار أعداد متزايدة من السوريين فيها خاصة في النصف الأول من القرن الـ20. منذ عام 1948 ارتفع عدد السكان وتوسع العمران في الجولان مع وصول أفواج اللاجئين الفلسطينيين، وباتت منطقة مواجهة عسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي.
في التاسع من حزيران 1967 احتل الإسرائيليون الجولان، واسترجع الجيش العربي السوري جزءاً منه (684 كيلومتراً مربعاً) في حرب تشرين الأول 1973. ومنذ ذلك الوقت، عمدت سلطات الاحتلال إلى تشويه وطمس الحقائق، وخاصة حقيقة أن عدد السكان هناك كان 138 ألف نسمة تقريباً قبل الحرب.
هجرت سلطات الاحتلال الغالبية الساحقة من سكان الجولان الذين قطنوا 131 قرية وبملكيتهم 112 مزرعة، بعد 3 أيام من القصف الكثيف، وخضع السوريون تحت الاحتلال إلى نظام الحكم العسكري وحظر التجول في قراهم من المساء حتى ساعات الصباح. لم ينجح السكان الذين لجؤوا خلال المعارك إلى الحقول والتلال بالعودة إلى قراهم، حيث تم تجميعهم وطردهم إلى ما وراء خط وقف إطلاق النار، فيما حظرت الأوامر العسكرية الدخول إلى 105 قرى مهجرة، وأعلن عن جميع القرى والمزارع التي طرد أصحابها وأهلها منها مناطق عسكرية مغلقة، واعتبرت “قرى ومزارع متروكة”.
في 14 تموز 1967، بدأ أول مشروع استيطاني في الأرض السورية أي بعد 5 أسابيع من انتهاء الحرب، حيث توجهت مجموعة شبان يهود من سكان الكيبوتسات إلى معسكر مهجور للجيش السوري في قرية العليقة المدمرة، وأقامت مخيم عمل بحجة جمع قطعان الأبقار المشتتة في أنحاء الهضبة، الذي أسس لإقامة أول مستوطنة وهي “مروم جولان” لتنضم إليها 33 مستوطنة.
وفي آذار 1968 بموجب أمر عسكري وضعت سلطات الاحتلال يدها على مصادر المياه بالجولان، وكشفت عن نحو 100 نبع مياه، وقامت ببناء 40 مجمعاً مائياً وبركة اصطناعية تخزن بها نحو 100 مليون متر مكعب من مياه الأمطار والينابيع تستخدم لري المزروعات التابعة للمستوطنات، وحفرت 7 آبار تستعملها لسحب المياه الجوفية.
حتى عام 1972، أحكمت سلطات الاحتلال سيطرتها على الجولان المحتل من خلال الحكم العسكري، وخلال هذه الفترة تم إقامة 15 مستوطنة.
في كانون الأول 1981، قرر الكنيست الإسرائيلي بشكل أحادي ضم الجزء المحتل من الجولان، غير مبال برفض مجلس الأمن والمجتمع الدولي.