عقلية الماضي الاستعمارية لفرنسا تدمّر حاضرها
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
تتكرّر المظاهرات الفرنسية بمشاهد أقسى مؤخراً ردّاً على حوادث أقل حجماً، ورغم ذلك تنتظر الحكومة الفرنسية كعادتها التهدئة وعامل الزمن كحل لتلك التظاهرات، مع تغييب متعمّد للتشخيص الصحيح ودراسة المطالب المحقة لتنفيذها على أرض الواقع، فما يحدث اليوم من فوضى واضطراب ليس وليد حادثة اليوم، ومقتل الشاب “ناهل” المنحدر من أصول جزائرية الذي يحمل جنسية فرنسا ولم يزُر الجزائر في حياته، على يد الشرطة الفرنسية لمجرد أن لون بشرته مائل للسمرة فضح عرقه أمامهم وجعله بنظرهم مجرماً من المرتبة العاشرة تجب تصفيته عند أدنى عدم امتثال لأوامرهم، يؤكد أن ما حصل يعود إلى تراكمات حوالي أكثر من أربعة عقود، وليس فقط امتداداً لمشكلات عام 2005 أو عام 2007 التي تكرّر خلالها المشهد ذاته أمام العرق ذاته أيضاً.
إن فرنسا حتى اللحظة لم تصحُ من ماضيها الاستعماري وعنصريتها المتجذّرة والمتغلغلة في أصول حكوماتها ومعظم أحزابها، فهي حتى الآن تنظر إلى قسم كبير من سكانها المنحدرين من أصل إفريقي أو عربي على أنهم ذاتهم أولئك “العبيد، المُستعمرون، المنهوبون” الذين يجب أن يتم استغلالهم لتحقيق رفاهية المواطن الفرنسي ذي الدرجة الأولى، ونتيجة هذه النظرة الدونية الفرنسية شهدنا بناء لضواحٍ تعجّ بعشرات الألوف أو ربما مئات الألوف تضمّ أولئك المهاجرين، وهي، وإن جاورت باريس وأكبر المدن، لا تتمتع بالخدمات أو البنى التحتية كغيرها من مدن فرنسا، كما لا يتمتع أبناؤها بكامل حقوق المواطن الفرنسي وإن حملوا جنسيته ذاتها؛ فالوضع الاقتصادي والاجتماعي السيّئ لهؤلاء هو بيت القصيد، كما أنه لا حقوق متكافئة في مجالات التعليم أو التوظيف أو في تعاطي المؤسسات معهم، وفوق كل ذلك لا حوار من الحكومة معهم، بل تتم معاملتهم بمنتهى العنف من الشرطة، فنائل تم تصويره عبر فيديو كشف قصته للعالم، ولكن سؤال تلك الجموع الغفيرة المحتشدة الآن هو “كم من نائل لم يتم تصويره، وكم من مواطن من جذور مهاجرة سيلحق به حتى يتم تعديل تلك العقلية ومن ثم تعديل قانون نقابات الشرطة الفرنسية؟”، حتى إن منظمة الأمم المتحدة طالبت الدولة الفرنسية بصريح العبارة بالتخلّي عن ممارسات العنف والعنصرية وسوء المعاملة ضدّ الأقليات والتعاطي السيّئ مع الاحتجاجات، ناهيك عن انتقادات من الدول المجاورة لفرنسا وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا.
وفي خضم هذا المشهد تبرز حيرة الرئيس الفاقد الشعبية، وربما قريباً الشرعية، إيمانويل ماكرون الذي رفض سابقاً الموافقة على خطط حكومية قُدّمت له لعلاج واقع المجتمع الفرنسي الآخذ بالتفاقم، ولم يسلم ماكرون حتى من انتقادات اليمين المتطرّف الذي وصفه بأنه يسعى إلى “أمركة الشرطة الفرنسية” في ربط بين ما اقترفته شرطة البلاد وما اقترفته الشرطة الأمريكية بحق “الأمريكي جورج فلويد”، ورغم ذلك يتابع ماكرون مشواره المشوّه في إصدار قوانين غير مدروسة ولا تصبّ في مصلحة السواد الأعظم لشرائح المجتمع، وآخرها قانون التقاعد الذي أخرج الفرنسيين والطلاب وعمال النقابات إلى الشوارع بالملايين ولأسابيع متواصلة ناهيك عن عشرات الإضرابات للعمال، ومع ذلك يصرّ ماكرون على التحدّي عبر إنزال عشرات الألوف من عناصر الشرطة وحفظ النظام إلى الشوارع في بلد ما زال ينظر إلى نفسه على أنه “مؤسّس الديمقراطية”.
من جهةٍ أخرى، يحاول ماكرون تشتيت الموضوع عبر إضفاء الصبغة المسيّسة عليه واتهام جهات معادية له بالوقوف وراء الموضوع وتجييش الشارع لمجرد تحقيق أهداف سياسية ضدّه، لكن هذه الفرضية تسقط أمام أعمار المتظاهرين؛ فأعمار معظم من نزلوا إلى الشارع تتراوح من عمر 14 إن لم نقل 12 حتى الـ18 عاماً، وأعمار كهذه تعبّر عن شرائح تتصرّف بمنتهى العفوية ومتفاعلة مع مشهد فاضح وعنيف للشرطة بعيداً عن الأحزاب ودوامات الانتخابات والشارع الفرنسي المقسوم أساساً بشكل طبقي وسياسي زادت من حدة انقساماته الأزمات، وآخرها اصطفاف فرنسا مع أوكرانيا و”الناتو” ضدّ روسيا، ولا بدّ أن نشير هنا إلى دعوة وجّهها نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف إبان اشتعال الاحتجاجات إلى الرئيس الفرنسي للوقوف إلى جانب بلاده عوضاً عن دعم نظام كييف بالأسلحة والمعدات العسكرية، قائلاً لماكرون: “ربما حان الوقت للتوقّف عن هذا الكلام الفارغ والوقوف في صف بلاده”، لافتاً إلى أن جميع الأموال المهدورة لدعم الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وعصابته بالأسلحة والمعدات العسكرية، يمكن أن تكون أكثر فائدةً للمواطنين الفرنسيين.
ويفنّد مزاعمَ ماكرون أيضاً في تسييس الاحتجاجات والتظاهرات انضمامُ فئات جديدة للمتظاهرين من رياضيين ونجوم الغناء والراب وتوسّع طبقات وشرائح المطالبين الرافضين للعنصرية ومشكلات الطبقية التي بدأت تثقل كاهل ذوي الدخل المحدود في بلد يصنّف على أنه يمتلك ثاني اقتصاد في أوروبا، كما يؤكدون أن المشكلة ليست في العنف الممارس ضدّ طبقة معيّنة في مجتمعهم بل هو عنف ممارس من الدولة ضدّ معظم الشعب وبالأخص أصحاب المطالب المحقة.
كذلك يُضاف إلى ذلك عوامل أخرى كرفض فرنسا مؤخراً الاعتذار عن ماضيها الاستعماري للجزائر التي من المفترض أن تكون مورداً بديلاً لحوامل الطاقة الروسية والغاز لفرنسا، بل رغبتها الجامحة في التدخل في الشأن الداخلي للجزائر والاعتراض على تعديل نشيدها الوطني وإعادة بيت إليه يتضمّن الوعيد للاستعمار الفرنسي كان قد تم حذفه من النشيد سابقاً.
ما يزيد من كارثية المشهد اليوم أن هذه المظاهرات غير مرخصة أو معروفة للشرطة، كما سيصعب حلها عبر التفاوض مع وفود تمثل حاملاً وجسماً لإرادة أولئك الشبان الصغار الذين ضاقوا ذرعاً بمشاهد العنصرية المرتكبة ضدّهم وهم يرفضون الحديث لمعظم وسائل الإعلام سواء الفرنسية أم الأوروبية لأنهم تابعوا الصورة السيئة المزيّفة التي تم نقلها عن المظاهرات عبر تلك الوسائل، وهذا ينذر بتحقق الأسوأ سواء هذه المرة وربما في مرات قادمة، وبالأخص أن رغبة فرنسا واضحة في عدم تعديل قوانين الشرطة والتعامل مع أصحاب البشرة السمراء، وعدم إلغاء السماح للشرطة في التصويب على الصدر والرأس ولو كان ذلك في حالة الدفاع الشرعي، بل فوق ذلك تسعى بعض الأحزاب الفرنسية إلى تعديل قانون المهاجرين وإلغاء العديد من التسهيلات والامتيازات التي كانت مسنونة لمصلحتهم.
إن النخب الفرنسية يشغل بالها الآن تساؤل مهم أمام هذه الأحداث، مفاده: هل سيعيش الفرنسيون جنباً إلى جنب أم وجهاً لوجه؟، وهل سيتم حل المشكلة عبر إعادة العدالة وإرساء العيش المشترك في هذا المجتمع السائر نحو مزيد من التشدّد والأوليغارشية؟. وبالنهاية فإن أية مقاربة أمنية لن تحل المشكلة التي وإن حُلّت عبر الضبط فستبقى جمراً تحت الرماد كسابقاتها، وشبّان الأقليات المهمّشون بسبب العرق ليست لديهم وسائل أخرى متاحة سوى التظاهر والشغب والتحطيم تجاه حكومة تصمّ آذانها عن مطالبهم.