معركة ميسلون.. دروس وعبر في مقاومة المحتل
د. معن منيف سليمان
قدّمت معركة ميسلون التي وقعت في 24 تموز عام 1920، دروساً وعبراً في مقاومة المستعمر الفرنسي، ففي ذلك اليوم زرع القائد البطل يوسف العظمة أول بذرة في التضحية والفداء ضدّ جحافل المستعمر المتفوق عدداً وعتاداً، وأصرّ على المقاومة بأي ثمن، يحدوه إلى ذلك حبّ الوطن وعشق الحرية، فأعلن وهو يخوض معركة غير متكافئة جرت مع جيش الاحتلال في ميسلون قائلاً: “لن ننسحب ولو متنا عن آخرنا، ومرّوا على أجسادنا، فنحن لا نحبّ أن نراهم يدوسون تراب الوطن، وإن كنّا نعرف أن قواتنا أقلّ من جيشهم بكثير، ولكن إيماننا بأنفسنا أقوى”، ولا شكّ أن ذلك رسخ عند أجيال المقاومة معادلة مهمّة في الصمود والدفاع عن شرف الأمة، وهي قوة الإيمان بالنفس مقابل قوة التفوق العددي والتقني للعدو.
لقد أسفرت الظروف السياسية والأحداث التاريخية بعد الحرب العالمية الأولى، عن ولادة دولة عربية حديثة في سورية بحدودها الطبيعية في 8 آذار عام 1920، وتشكلت حكومة وطنية، ونُصّب الملك فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً عليها، وكان ذلك قد أثار غضب الاستعمار الغربي المتمثل وقتذاك بفرنسا وبريطانيا الذي كان قد أعدّ مشاريع استعمارية قسّمت المشرق العربي وفق معاهدات وقعت بين الطرفين.
وتنفيذاً لشروط تلك المعاهدات الاستعمارية، شرعت فرنسا باتخاذ وسائل الهجوم للسيطرة على المنطقة الشرقية التي تمثل منطقة نفوذ الدولة السورية الفتية لإرغامها على القبول بالانتداب والخضوع لإرادته، فأرسلت حملة عسكرية كبيرة مجهزة بأحدث العتاد الحربي من مدافع ودبابات وطائرات بقيادة الجنرال “هنري أوجين غورو”.
بدأ الاحتلال الفرنسي لسورية بدخول القوات الغازية لمدينة طرطوس أواخر عام 1918، وبعد ذلك باحتلال مدينة حلب في تموز عام 1920، ثم أخذوا بالتوسع في المدن والقرى على حساب الدولة السورية الناشئة، حتى وصلوا حدود مدينة دمشق عبر جبال لبنان، لتبدأ وقائع معركة ميسلون والملحمة البطولية التي سطّرها البطل الفذّ يوسف العظمة الذي شغل لتوه منصب وزير الحربية.
بدأت أحداث معركة ميسلون عندما وجّه الجنرال غورو، قائد الحملة الفرنسية على سورية، إنذاره المعروف باسمه، إلى الحكومة العربية الفتية التي لم تمض على قيامها بضعة أشهر، وقد نصّ بشروطه على استسلام كامل ومهين.
واشترط الجنرال الفرنسي تنفيذ هذه الشروط قبل الثامن عشر من تموز، لكن جيشه بدأ يستعدّ للزحف خلال المهلة الممنوحة للدولة السورية، ما يؤكد أن ادّعاء غورو أن البرقية وصلت بعد انقضاء الوقت المحدّد، كان ذريعة واهية لاجتياح سورية وإجهاض استقلالها والقضاء على آمالها في الحرية، وعلى الرغم من ذلك، فقد قبل الملك فيصل مع معظم وزرائه شروط الإنذار والاستسلام للغزاة، وأبرق إلى الجنرال غورو بالموافقة كما سلف القول، وأوعز بحلّ الجيش الوطني من الخدمة.
أما وزير الحربية البطل يوسف العظمة، فقد أصرّ على المواجهة، إيماناً منه بأن الشعور الوطني يأبى على المرء أن يسلّم بلاده للغزاة، دون أن يستنفد قواه في دفع العدوان، وأن الشعب يلحّ في طلب الدفاع عن وطنه، ويعلن التفافه حول جيشه والسير معه نحو الهدف المقدّس، وهذا التأييد الشعبي قوة معنوية لا يستهان بها.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، جمع البطل يوسف العظمة حوله عامّة الناس من المتطوعين ليقوموا مقام الجيش النظامي المسرّح، وقرّر أن يموت شامخاً على رأس جيشه، مرفوع الهامة في وجه الغزاة المحتلين، فأعلن نداءه الشهير للمسرّحين من الجيش لكي يتطوعوا للدفاع عن الوطن، وأعلن الشعب السوري عن استعداده لكل أنواع التضحية والفداء بكل ما يملك من إمكانات، وإن كانت متواضعة، فقامت مظاهرات صاخبة في دمشق والعديد من المدن السورية، وأقبلوا على التطوع في الجيش الوطني والتبرّع بالمال، والاستعداد لخوض معركة الشرف، معلنين رفضهم لشروط الإنذار الفرنسي ووقوفهم إلى جانب قائدهم يوسف العظمة الذي قال: “أنا ذاهب إلى ميسلون لإعادة تنظيم الجيش قدر الإمكان، وجمع ما أستطيع جمعه من الرجال، وقد صمّمت على الدفاع حتى الموت”، كان مؤمناً أنه مقبل على الموت لا محالة، لذلك كانت وصيته الأخيرة: “أنا ذاهب الآن إلى الجبهة، وإنني أترك ابنتي الوحيدة ليلى أمانة في أعناقكم”.
توجّه المتطوعون إلى قلعة دمشق، وفتحوا أبوابها، واستولوا على الأسلحة والذخائر وهم يهتفون ملء حناجرهم: “نحن سندافع عن الوطن، لن تدخل فرنسا إلى بلادنا إلا على أشلاء أجسادنا، نحن أحفاد الأبطال الميامين، إلى الجهاد يا شعبنا”، ثم سار هؤلاء الأبطال بقيادة البطل يوسف العظمة إلى ميسلون في فجر يوم السبت 24 تموز عام 1920، وانتشروا على طول جبهة القتال ما بين قرية جديدة يابوس ومخفر خان ميسلون الحالي على جانبي الطريق العام دمشق- بيروت، وعلى مرتفعات “عقبة الطين” على بُعد 700م من نبع ميسلون الحالي، وهذه المنطقة من أكثر المناطق وعورة.
كان عدد الذين اشتركوا في القتال نحو 3000 مقاتل لا يملكون من العتاد سوى 15 مدفعاً و25 رشاشاً، بالإضافة إلى عدد من الأسلحة الخفيفة الفردية، حتى إن القنابل والألغام لم يكن منها سوى عدد ضئيل محلي الصنع ودون أية تغطية جوية، وبالمقابل بلغ عدد الجيش الفرنسي نحو 9000 جندي بقيادة الجنرال الميداني غوابيه، يعاونه رئيس الأركان الجنرال بيتلان، ويمتلك هذا الجيش أسلحة متطورة من مدافع مختلفة العيارات، ودبابات حديثة وثلاثة أسراب مقاتلة وسرب استطلاع يحتوي على 18 طائرة.
وهكذا دارت رحى القتال في ميسلون، وجرت معركة غير متكافئة استشهد من المقاومين عدد كبير بعد أن مُني الغزاة بخسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وقد قدّر للقائد يوسف العظمة أن يستشهد في المعركة، ويروي تراب ميسلون بدمه، فدفن في المكان نفسه الذي استُشهد فيه ليروي لأجيال المقاومة التي تعشق الحرية قصة نادرة في البطولة والتضحية والفداء من أجل حرية الوطن وكرامته وشرفه.
بعد هذه المعركة، دخل الغزاة المحتلون دمشق عاصمة البلاد على أشلاء أولئك البواسل الميامين، وتوزّعت القوات الفرنسية في أماكن حيوية، وبعد ذلك قدّم الجنرال غورو إلى دمشق في أول أيلول، وكان أول ما فعله التوجّه إلى ضريح القائد البطل صلاح الدين الأيوبي، فدخل مقامه ثم عبّر بكلمات يفوح منها حقد دفين: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، إشارة إلى أسلافه الغزاة الأوروبيين الذين أجلاهم صلاح الدين عن بيت المقدس بعد معركة حطين الظافرة عام 583هـ /1187م.
كانت معركة ميسلون بين جيش مدرّب مجهّز بجميع وسائل القتال والعتاد والمدافع الثقيلة والدبابات والطائرات، وبعض المتطوعين كان سلاحهم البنادق والإيمان بقضية وطنهم العادلة، وكانت ميسلون من حيث النتائج السياسية والعسكرية نهاية دولة عربية ناشئة في سورية، تأسّست قبل خمسة أشهر فقط من المعركة، لكنها من حيث البطولة والكرامة والفداء كانت أعظم وأجلّ معركة، أزكت معاني المقاومة والتضحية والفداء من أجل الدفاع عن الوطن.
شكّلت معركة ميسلون فاتحة عصر الثورات في وجه المستعمر الفرنسي، فقد كان قرار الشعب العربي السوري بعد المعركة، المقاومة والكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فكانت ثورة الشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية، وثورة إبراهيم هنانو في الشمال، والثورات المسلحة في إدلب وكفر تخاريم والمعرة، وفي دمشق وحمص وحماة وتدمر ودير الزور والبادية والقلمون والنبك وتلكلخ، ثم الثورة السورية الكبرى عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش التي كلفت الفرنسيين خسائر فادحة، واستمرت الثورات متأججة حتى تحقيق الاستقلال في 17 نيسان عام 1946، وفي هذا الصدد يقول الجنرال “ويغاند” في كتابه الذي أعدّه عن سورية: “لقد شهدت في أثناء وجودي في سورية ثلاثمئة ثورة”.
قدّمت ميسلون درساً مفاده إن وطناً يقاوم المحتلين بأجساد أبنائه وبأسلحة فردية بدائية، يمكن أن يخسر معركة، ولكنه لا يخسر روح المقاومة، ولا ينام على ضيم، فالأمة الحيّة قادرة على أن تنجب الأبطال قوافل تلو قوافل إلى أن يتحقق النصر وترتفع راية الحرية والاستقلال.