ثقافة

رائحة الفانيلا

كان رجلٌ يزحف نحو الخمسين، وجد نفسه مقاتلاً في حرب لئيمة غادرة, لا تشبه أي شيء تعلمه أو درسه في أي أكاديمية عسكرية, رغم أن الحرب صنعته وأنه عشق الجندية مذ كان طفلاً, ولكنه لم يتوقع أن تأتي حرب تظهر كل لؤم ووحشية البشر كما فعلت هذه الحرب, حرب صنعت منه شخصاً جديداً, ليس بالضرورة أسوأ أو أفضل، ولكنه شخص مختلف, يفهم الدنيا بمعان أعمق وأرق, سنواته الماضية كأنها حياة تعود لشخص آخر لم يعرفه من قبل وليست حياته, كل ما يربطه مع هذا الرجل أبناء يشكلون قلبه بكل ما فيه، وزوجة أكلت السنون والأيام المتعبة من الحبل الذي يجمعهما حتى أصبح رفيعاً ولكنه موجود, يعرف أنها هناك دائماً ربما ليس لأجله, ربما لأجل الأولاد، ربما لأجل بيت هو كل ما تملك على هذه الأرض, بيت بكل ما فيه من خيبات وآلام و أفراح ولكنه بيتها, خلف ساتر ترابي ووسط الرصاص الذي أطلق كعاصفة مفاجئة بعد هدوء, هبت نسمة هواء أحس فيها برائحة فانيلا خفيفة تشبه رائحة بسكويت أمه وهو صغير, التفت نحو مصدر الرائحة وجدها هي وسط الحرب في الشارع بين إطلاق نار مزدحم, عيناها الهادئتان في وسط وجه مرتعب أرجفتا قلبه, لم يعتقد أنه مازال يملك قلباً يرتجف لرؤية عينين هادئتين, امرأة كل ما فيها أنثوي وهادئ حتى رعبها كان هادئا لدرجة العدوى, طلب منها بالإشارة أن تهدأ وتخفض رأسها وسيجعلها تعبر الشارع، لكنها ركضت باتجاهه ووقفت خلفه بمسافة متر واحد وأخفضت رأسها. لمحها لمحة خاطفة وعاد لمتابعة مصدر إطلاق النار بعينين قلقتين وثاقبتين, رغم أن رائحة الفانيلا المنبعثة منها أسكرت قلبه, قال لها انتظري هنا قليلاً، وردت عليه لا تقلق ليس مهماً أن أعبر الآن سأنتظر ليهدأ الرصاص، ورأى شبح ابتسامة على طرف شفتيها الممتلئتين, ابتسامة كأنها تطمئنه بها أكثر من أنها تطمئن نفسها, طال الانتظار ولم يتجاوز رعبها ليعبر عينيها الواسعتين في لحظة تمنى أن تقف خلفه وتحتمي به، لكنها لم تفعل, وتردد هو في التقدم أمامها وطرد هذه الفكرة من رأسه, قال لنفسه ربما السبب هي رائحة عطرها التي تشبه رائحة الفانيلا, لقد أعادته إلى مطبخ أمه ,عندما كانت تصنع له الكعك وهو طفل صغير, أما هي فبقيت واقفة جنبه حتى انتهى جنون الرصاص. تقدمت خطوة وتنفست بعمق ثم قالت: ابق هنا سأعبر وحدي لا تقلق، المهم أن تختفي جيداً خلف الساتر الترابي, فقد يلمحون زيك العسكري ويبدؤون من جديد, ارجع أنت للخلف بحذر وأنا سأعبر، هذه أفضل طريقة, قالت هذه الكلمات بحزم بدت جميلة وطويلة بعدما تراجع الرعب من وجهها ليترك مكانه للعزم, مشت إلى الأمام فأوقفها وقال لها ما هو اسمك لأناديكِ به وأراد أن يتابع ولأطمئن عليكِ، لكنه تراجع وندم لأنه طلب معرفة اسمها، ألا يكفيه أنه فانيلا!, ابتسمت وأخبرته اسمها, قالته بهدوء وسلام لم يملكه هو, سلام يحيط بها رغم سنوات الحرب وغادرت واختفت كما ظهرت برائحة الفانيلا, وتمر الأيام ليجد نفسه في كل يوم يرتقب مرورها, ربما مرت الكثير من الأيام في السابق ولكنه لم يلحظها, تمنى لو فعل ذلك, لم يعتد بعد ارتجاف قلبه كلما مرت من أمامه هي مبتسمة بهدوء وطمأنينة سنيها الأربعين, أحس أن شيئاً في الدنيا لا يمكن أن يزعزع هذه الابتسامة من وجهها، ولا حتى هذه الطمأنينة الموجودة على محياها, كان يتجنب الكلام معها كلما مرت ويكتفي بالمراقبة من بعيد, إلا أنه في ذلك اليوم كانت رائحة الفانيلا طاغية مُسكرة بالحنين ودفء البيت وطعم الكعك اللذيذ, اقترب منها ليطمئن عنها ويسألها عن حالها إن كانت بخير, أراد أن يرى ابتسامتها وعيناها المطمئنتين, إلا أن القناص كان له رأي آخر عندما أصابتها رصاصة كان هو هدفها وقرر ببندقيته أن لا داعي لهذا السؤال, عبرتها الرصاصة الأولى من قلبها والثانية من كتفه هو, كل ما يذكره الآن إغماضة عينيها وهي تسقط أمامه, كانت إغماضة راحة أبدية لعالم لم يعد يحتمل رائحة الفانيلا, في جنازتها عرف أنها كانت وحيدة هي وأمها تقتسمان ألم الأيام والحرب، من يومها عرف أن ضجيج قلبه لن يسمح له بأن يعود حياً إن لم تنته هذه الحرب، تكلموا كثيراً عن شجاعته وقلبه الميت، بعضهم قال لأجل أولاده وآخرون قالوا لأجل وطن, وحده يعرف أنها رجفة قلب من أجل وطن برائحة الفانيلا.
نسيبة مطلق