ثقافة

كتاب “مونوغرافيات” للباحث السينمائي قيس الزبيدي.. خوض ممتع في عوالم سينمائية رحبة

محطات سينمائية متنوعة تاريخياً وفنياً وتقنياً، يمر عليها الناقد والباحث السينمائي “قيس الزبيدي” في كتابه “مونوغرافيات في تاريخ ونظرية صورة الفيلم” الصادر عن وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، يستعرض من خلالها مجموعة من الأحداث المتسلسلة التي رافقت التطورات الديناميكية والفنية لفن العالم السابع، منذ ومع وصول قطار الأخوين لوميير إلى مقهى غراند كافييه عام 1895 تاريخ ولادة السينما حتى أيامنا هذه.
بعد أن عرض “لوميير” فيلمهما التسجيلي “وصول القطار إلى المحطة” أحال هذا الفيلم كل محاولات آل لاتيرنا ماجيكا وآل “كاميرا أوبسكورا” إلى الركون في الظل، بينما بقيت تتقدم البكرة اللومييرية في رصدها للعوالم التي تنتقيها عدستهما الشخصية والميكانيكية (طفل يتناول الطعام- تدشين سفينة وقت نزولها للبحر) وغيرها من الصور المتحركة التي كانت تنقل مزاجهما المرح في اكتشاف جمالية الحركة الحية التي تبثها الصورة المتغيرة، إلا أن التاريخ سيذكر بمزيد من الشغف كلاً من “جورج ميليه” و”أودين أس بورتر” اللذين وضعا السينما المبكرة على خريطة المونتاج بشكل حاسم ونهائي، حيث يعتبر “ميليه” أول من قام بإعداد مشاهد روائية وبنى أول استوديو وكتب أول سيناريو، ورسم أول ديكور، وقدم أولى الخدع السينمائية، على الرغم من تمسكه بالتقاليد المسرحية الواضحة في معظم أفلامه.
محطة مهمة أخرى في تاريخ التطور السينمائي، يخبرنا بها “الزبيدي”في كتابه الآنف الذكر، وهي اكتشاف قدرة المونتاج ووظيفته في بناء القصة السينمائية، بالابتعاد عن التتابع المألوف للصورة، وفقاً لترتيب تتابع أحداثها الزمنية، التغيير المهم الذي أظهره فيلم “سرقة القطار الكبرى” لـ “أدوين بيتر” لتبدأ من تلك القفزة السينمائية النوعية الجديدة، تقنية تقسيم المشهد الواحد الطويل إلى عدة لقطات قليلة ، إضافة إلى بناء الحدث الفيلمي في عدة مشاهد، ثورة جديدة هامة في التعبير السينمائي، كان ذلك في عام 1903 في فيلم حياة رجل المطافئ، الذي أسس لما عرف فيما بعد بأفلام “الويسترن” أي أفلام الغرب.
ينقسم كتاب “مونوغرافيات” إلى العديد من الفصول التي تتدرج في تفصيل وتوضيح المقامات الفنية والأدبية والفلسفية أيضاً، التي عملت السينما على تطويعها بما يتناسب مع منهجها في تقديمها لنتاجها السينمائي عبر ما يزيد على المائة عام، ومن هذه الفصول “الشعر في السينما” حيث يتساءل صاحب كتاب “المرئي والمسموع في السينما” في بداية هذا الفصل، من أين يأتي الشعر في السينما؟ وكيف تنشأ العلاقة بين السينما والشعر؟ إذ إن السينما الصامتة كانت أقرب إلى الشعر، وبالوقت عينه نستطيع أن نقرأ أو نستشف في صور بعض الأفلام الناطقة ما يشي بالشعر، وهنا يأتي “الزبيدي”على طرح مسألة غاية في الأهمية تتلخص بالسؤال التالي:كيف تتكون إذن الشعرية في الفيلم السينمائي؟الجواب يكمن في الأفلام التي عمد مخرجوها إلى معالجة صورها بمنطق شعري، باعتبار أن ما هو شعري فيها ليس نزوة أو رغبة، بل هو مستنبط من طبيعة المادة الفنية المصورة، كما فعل الهولندي التسجيلي “إيفنز” في فيلمه الأول المطر وفيلمه الأخير الريح. وهنا يحضرني تساؤل أرسطو في كتابه “فن الشعر”: ماذا يعني أن ترسم تفاحة بكافة تفاصيلها، مادامت الطبيعة تمنحك إياها وبأعداد هائلة؟ بمعنى لماذا نكتب الشعر ما دامت السينما قادرة على أن ترينا مادته الأولى؟
أما فيما يخص الكتابة السينمائية، فيخبرنا صاحب “اليازرلي” بأن الكتابة للسينما لها ميزات تختص بها عن سائر أنواع الكتابات المختلفة، فهي تقوم على العديد من الأشكال السردية التي تأسست منذ أرسطو والتي أفرزت مع تقدم الزمن مفاهيم معاصرة لبنية السرد منها مفهوم سيدفيلد، إضافة إلى استعراضه لمجهود كتاب السينما للابتعاد عن السردية الأدبية المألوفة وتجريب سردية سينمائية خاصة عبر مفاهيم خاصة منها الحكاية المغلقة والمفتوحة والحكاية الشعرية السيميائية.
يتطرق صاحب “وطن الأسلاك الشائكة” إلى طبيعة الألوان التي تعتمد السينما على تمازجها وإيحاءاتها ليكون لها دورها الحاضر بفعالية أيضاً في لغة الصورة، خصوصاً وأن الألوان لها قدرتها على إثارة المشاعر نظراً لكونها رموزاً متعارفاً ومتفقاً عليها عند سائر الناس، وهي مقترنة بحالات نفسية واجتماعية لها دلالاتها الواضحة، فالأزرق مثلاً يشير إلى الحزن والبني للإحباط وهكذا.
ومن أوائل المخرجين الذين تنبهوا إلى أهمية اللون في الفيلم السينمائي، هو الفنان الشهير “والت ديزني” صاحب فيلم “الخنازير الثلاثة الصغيرة” الذي أخرجه عام 1932 بأسلوب تلوين لا ينطبق على الواقع، لكنه خلق استمرارية حركية مرحة تتوافق مع إيقاعات الصوت المختلفة.
عمل “الزبيدي” على توضيح وتفسير الصيغة التركيبية لفن السينما وعلاقته مع غيره من الفنون كالمسرح والشعر واللوحة التشكيلية، مبيناً خصوصية كل فن على حدة والتدرج الذي أوصل الفن السابع إلى صيغته الحالية على الصعيد التقني وعلى مستوى التعامل مع المواضيع بألوانها المختلفة. فتاريخ السينما يدل على ابتعاد صانع الفيلم عن سطوة المسرح ومن ثم عن سطوة الأدب وسطوة الفنون الأخرى ليبتكر أشكاله الفيلمية، التي تتحد فيها كل العناصر الفنية المستعارة من المسرح والأدب والهندسة والرسم والتصوير الضوئي والموسيقى والصوت وتدخل متآلفة في نسيج اللغة البصرية الفيلمية، فمثلما تحدد الموسيقى في الأوبرا، والحوار في المسرح، والهندسة في فن البناء. قانون صياغة الشكل في كل من هذه الفنون، تحدد الصورة قانونية الشكل السينمائي، ويشكل بناء الصور بالتالي أساس معالم الصياغة الفيلمية.
كتاب مونوغرافيات في تاريخ ونظرية صورة الفيلم للباحث والناقد السينمائي العراقي “قيس الزبيدي” من الكتب التي تحمل قيمة فكرية ومعرفية وجمالية خاصة، أهم ما يميزها البساطة التي طرحت بها الكثير من المحطات المعقدة فعلاً لتاريخ التطور السينمائي بمختلف مناحيه، كما أنه من الكتب التي ترصد وتؤرشف حيوات الكثير من الطروحات الفكرية والفنية الفيلمية، تلك التي جعلت عالم الفن السابع من أكثر العوالم سحراً وإيغالاً في ارتياد آفاق الأنا الإنسانية بعدسات ميكانيكية، فيها الكثير من الحب والألفة والشغف.

رنا محمد محمد