درب الحنين
سلوى عباس
شكلت المقاهي الأدبية والثقافية في الوطن العربي بعداً مهماً في مناقشة أبعاد المنابر الثقافية التي كان المقهى واحداً منها ولاسيما في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث كان الأدباء يتحاورون ويتناقشون إلى حد كانوا يصنعون القرار السياسي أو حتى الثقافي في المقاهي، وقد حافظ المقهى الأدبي على ترابط الأجيال، إذ يذكرنا برائحة الزمن وبقصة كفاح الإنسان وشوقه للحوار، هذه المقاهي التي تحكي ألف حكاية وحكاية وتصلنا بالماضي وبنضالات الأدباء والمفكرين وبالسجالات الأدبية والفكرية والسياسية التي دارت وأمتعت وصنعت فكراً وحضارة. وكان كل مقهى من هذه المقاهي يمثل حياة كاملة زاخرة بالأفكار والأحداث والشخصيات التي كانت نجوماً للفكر والفن والثقافة، لكن يبدو أنه قدرنا في هذا الزمن الصاخب والموحش أن نفتقد مفردات حياتنا الجميلة بمكوناتها واحدة تلو الأخرى فبالأمس شغل مواقع التواصل الاجتماعي خبر إغلاق مقهى “زرياب” الذي اشتهر بفاعليته ونشاطاته، وخلق مع رواده عالماً حقيقياً وآمناً يحجب ضجيج الحرب والمعاناة اليومية، وينبض بالفن والأدب والموسيقا، وكان حاضنة لكثير من المبادرات الثقافية والفكرية، فمنذ أن افتتحه صاحبه كانت له أحلامه بأن يكون مقهاه ملجأ للثقافة والموسيقى والكتابة في زمن الموت وصوت الحرب، إلا أن غالبية المقاهي التي حاولت أن تأخذ طابع الملتقيات الثقافية أغلقت أبوابها، لكن “زرياب” بقي قائماً في حي القيمرية، يصنع أطباقاً يومية، وأمسيات شعرية وموسيقية، كما عمل صاحبه “برنار جمعة” على تشجيع الكتاب الشباب بتنظيم أمسيات ثقافية لهم وطباعة الكتب على نفقته، فكان هذا المقهى على ضيق مساحته مشرعاً للحياة والأحلام.
اليوم وبعد ثلاثة عشر عاماً من الحلم ينحو مقهى “زرياب” منحى كثير من المقاهي التي كان لها طابعاً حياتياً مختلفاً بنبض إيقاعه.. ها هو “زرياب” ينحو منحى مقهى “الروضة” الذي كان إلى فترة من الزمن ليست ببعيدة ملجأ للأدباء والمثقفين من كل المحافظات، وكان شاهداً على الكثير من الأحاديث والاتفاقات بينهم، وشاهداً حتى على وشوشاتهم وضحكاتهم، فاكتست ملامحه طابعاً ثقافياً وفكرياً ارتسم حتى على ملامح نُدُله الذين أصبحوا يمثلون جزءاً من المكان، وبالتالي نشأت بينهم وبين رواد المقهى حالة من الألفة حتى أصبحوا يدلون برأيهم في أي حديث يتناهى إلى أسماعهم أثناء خدمتهم لزبائن المقهى، لكن هذا المقهى تحول الآن إلى مقهى عادي يرتاده الناس كاستراحة من تعب أو لموعد ما يتفقون عليه فيه.
والمصير ذاته ينطبق على مقهى الهافانا الذي كان في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي من أهم المقاهي في دمشق وعلامة فارقة من علاماتها، اكتسب حالة فكرية أرستقراطية استمدها من طبيعة رواده، وفي هذا المقهى التقيت بحكم عملي الصحفي بأدباء ومثقفي سورية والوطن العربي، تحاورت معهم حول الكثير من القضايا الثقافية والأدبية، ونشأت بيننا صداقة كان المقهى كمكان وأشخاص الشاهد الأول على تفاصيلها.
هذان المقهيان وغيرهما من المقاهي التي كان لها حضورها الثقافي والفكري اختلف دورها الآن وتحديداً في هذه الظروف العصيبة التي تعانيها منطقتنا، إذ تحولت لمقاه عادية قد يؤمها بعض مثقفي هذا العصر وأدبائه ليستعيدوا من خلالها ذكريات زمن مازالت رائحته تعبق في المكان، فهل سيأتي يوم يعود لهذه المقاهي ألقها الذي افتقدته وتستعيد دورها الفكري والثقافي من جديد، وإلى أن تستعيد منابرنا الفكرية والثقافية ألقها سنبقى على قيد الحنين لزمن احتضن الكثير من ذكرياتنا الجميلة.