الخضوع لواشنطن لا يصنع قوة عظمى
هيفاء علي
من وجهة نظر المحلّل والناشط السياسي البولوني “ميشال كروبا”، لا تزال الأصوات المنطقية بشأن الحرب الراهنة في أوكرانيا وسياسة وارسو الأساسية تجاه الصراع نادرة في بولندا هذه الأيام. كما أن المنشقين الذين يشيرون إلى أن موقف الحكومة الجذري المناهض لروسيا والمؤيد لأوكرانيا قد عرّض الأمن القومي البولندي للخطر، وجعل البلاد أضعف، وأخضع سياسات وارسو الخارجية والدفاعية لعواصم وكيانات أجنبية، لا يزالون أقلية. ومن بين هؤلاء، البروفيسور ستانيسلاف بيلين، أحد كبار المتخصّصين في العلاقات الدولية من جامعة وارسو، حيث يمكن اعتبار بيلين بحق الصوت البولندي الرائد للواقعية في السياسة الخارجية في الأوساط الأكاديمية. تركز أبحاثه على السياسة البولندية تجاه الشرق، أي دول الاتحاد السوفييتي السابق، وخاصة روسيا.
يضيف المحلّل أن معظم المعلومات الرسمية الصادرة من بولندا ليست أكثر من تكرار لخطاب واشنطن، مثل الاعتراف الصريح الذي أدلى به الرئيس أندريه دودا مؤخراً لصحيفة “واشنطن بوست” عندما قال إنه في هذه اللحظة، يمكن إيقاف الإمبريالية الروسية بتكلفة قليلة، لأن الجنود الأمريكيين لا يفعلون ذلك. وفي هذا السياق، من المهمّ إعطاء الرأي الغربي فكرة عما يقوله الباحث البولندي الجاد حول هذه القضية، حيث كتب مؤخراً مقالاً حول ما سمّاه “الهواجس الإمبراطورية” في بولندا. واعتبر المحلّل أن ملاحظات بيلين هي تشخيص أساسي لغطرسة الغالبية العظمى من وسائل الإعلام والنخب السياسية البولندية، والتي تفاقمت بعد 24 شباط 2022، إذ يقول بيلين: “أخبر بولندا أنها، بكونها الحامي الأكثر سخاءً لأوكرانيا، وتظنّ نفسها أنها أصبحت قوة في منطقة أوروبا الشرقية، فقد تمّ تسخيرها لعربة سياسة الهيمنة التي تنتهجها الولايات المتحدة. استغلت الولايات المتحدة الحرب في أوكرانيا لمحاولة إضعاف روسيا، ووجدت مساحات جديدة للتوسع الإمبريالي في مناطق ما بعد الاتحاد السوفييتي. وهي تحتاج إلى العديد من الدول المطيعة لتحقيق مصالحها الإستراتيجية. وبولندا، التي لا تزال حبيسة عقلية الأقمار الصناعية، المعادية لروسيا، والتي تشمّ رائحة الخيانة والتهديدات من كل مكان، والتي استهلكها الخوف، أصبحت المنفذ المثالي للتعليمات القادمة من الخارج”.
بيلي انتقد دائماً إستراتيجية تبعية وارسو العمياء لواشنطن. وفي عام 2004، في معرض تعليقه على انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي، أوضح بيلين أنه نظراً لوجود روسيا كجار قريب، أصبحت بولندا متورّطة في الارتباط بين المشاعر المعادية لروسيا والسياسة الأمريكية الهادفة إلى احتواء النفوذ الروسي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. نتيجة لذلك، بدلاً من التركيز على إصلاح العلاقات البولندية الروسية، تمارس السلطات البولندية سياسة مليئة بالنفاق، فهي تشوّه أي علامة على بسط القوة الروسية عبر الحدود الشرقية، في حين تُظهر انصياعاً كاملاً للإجراءات الإمبراطورية التي تتخذها الولايات المتحدة، حيث كان خضوع بولندا لأهواء واشنطن موضوعاً متكرراً في السياسة البولندية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد أبدت شخصيات بارزة في الحياة العامة، مثل الراحل جان نوفاك جيزيورانسكي، ورادوسواف سيكورسكي، وزير الخارجية السابق وزوج آن أبلباوم، اشمئزازها علناً من العجز البولندي المتأصل ظاهرياً عن قول “لا” لواشنطن. ومع ذلك، في سياق ما قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في 15 تشرين الأول 2023، تعتبر الحكومة أن مثل هذه المشاعر ترقى إلى مستوى الخيانة أو الخضوع لروسيا. ويرجع ذلك أساساً إلى أن بولندا لم تكن موجودة كدولة مستقلة خلال القرن التاسع عشر، عندما تمّ إنشاء التسلسل الهرمي الإمبراطوري في أوروبا، ولكن أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، لم تعتد على تطلعات الزعامة البولندية، ناهيك عن تطلعات القوى العظمى. منذ ذلك الحين، حاولت وارسو عبثاً إقناع نفسها بأنها استعادت نوعاً من الوضع شبه الإمبراطوري في أوروبا الشرقية باعتبارها حصناً ضد روسيا، وهذا الوهم “يكشف أن بولندا في أعلى المخاطر” ومكانة وارسو كموقع استيطاني طوعي. ومن ثم يشرح بيلين بالتفصيل إمكانات بولندا الحقيقية في ظل الاضطرابات الجيوسياسية الحالية المحيطة بأوكرانيا ويقول: “ليس لدى بولندا حالياً إمكانات إمبريالية فهي محدودة المساحة في قدراتها التوسعية بسبب الجغرافيا السياسية لدول أكبر منها وأقوى. فهي لا تمتلك القوة والموارد اللازمة لمتابعة سياسة ديناميكية لإعادة التجمّع حولها. وعليه، فإن الطموحات الكبيرة والإرادة السياسية لمن هم في السلطة ليست كافية، خاصة وأن المشهد السياسي البولندي “هزيل” عندما يتعلق الأمر بتصوّر الأدوار الدولية، إنها تفتقر إلى رسالة أيديولوجية عالمية!.
من الواضح أنه بين الليبرالية الجديدة الغربية والتقليدية الشرقية، ليس لدى بولندا أي شيء استثنائي تقدّمه للدول التي تسعى إلى “طريق ثالث” في أوروبا الوسطى. إن رهاب روسيا المسعور، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف ذات الأولوية للولايات المتحدة، لا يشكل مبدأ تنظيمياً جذاباً بشكل خاص لعدد متزايد من البلدان.