مجلة البعث الأسبوعية

ديناميكيات مهتزة للعلاقات في الذاكرة الحديثة.. أفغانستان … الانعكاس الأكثر إذلالاً للسياسة الخارجية الأمريكية

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

في الذكرى السنوية الثانية للخروج المهين والمذل للولايات المتحدة من أفغانستان، أصبحت عواقب هذا الانسحاب واضحة، فالضرر الكبير الذي ألحقه هذا الانسحاب بسمعة واشنطن وقوتها الناعمة دفع حلفاء الولايات المتحدة إلى شق طريق لتحسين العلاقات مع منافسي أمريكا العالميين.

في مذكراته، يستذكر رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حدثاً مهماً وقع في عام 2013 عندما اقترح وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري القيام بزيارة سرية إلى أفغانستان لرؤية القوات التي دربتها الولايات المتحدة، حيث أخبر جون كيري عن رغبته في ترتيب زيارة سرية لـ نتنياهو إلى أفغانستان، قائلاً له : “سترون بأم أعينكم العمل الرائع الذي قمنا به هناك لإعداد الجيش الأفغاني لتولي زمام الأمور في البلاد بمجرد مغادرتنا”.

وبعد مرور ثماني سنوات، كانت نتيجة هذا “العمل العظيم” مشهداً محرجاً، وإهانة دبلوماسية، وكارثة أمنية وطنية. ومن وقتها فصاعداً، يشهد شهر آب من كل عام ذكرى “الانعكاس الأكثر إذلالاً للسياسة الخارجية الأمريكية والبريطانية في الذاكرة الحديثة”، على حد تعبير صحيفة “الغارديان “في وقت سابق من هذا العام.

خروج مكلف من أفغانستان

في 30 آب 2021، غادر آخر جندي أمريكي أفغانستان، منهياً فعلياً حرباً واحتلالاً داما عقدين من الزمن، لكن الانسحاب لم يتم كما أرادت واشنطن، بل أدى بدلاً من ذلك إلى وضع وصفته وسائل الإعلام الغربية وحتى السياسيون الأمريكيون بأنه “كارثي ومهين”. وفي شباط 2022، صدر تقرير عن لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي بعنوان ” تقييم موجز للإخفاقات الإستراتيجية لإدارة بايدن خلال الانسحاب من أفغانستان”.

ركز التقرير على فشل إدارة بايدن في توقع استيلاء طالبان السريع على أفغانستان، وهو ما حدث مباشرة بعد مغادرة القوات الأمريكية. وجاء في التقرير أن إدارة بايدن تجاهلت عدة تحذيرات استخباراتية وقررت التخلي عن قاعدة “باغرام” الجوية على الرغم من التقارير التي تفيد بأن ذلك قد يؤدي إلى سيطرة طالبان على العاصمة كابول. ويكشف التقرير كذلك أن البيت الأبيض تجاهل معارضة وزارة الخارجية للانسحاب، وفشل في التخطيط لعملية الإخلاء إلا بعد فوات الأوان، وفي هذه العملية، تخلى عن عشرات الآلاف من الشركاء الأفغان.  وأشار زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب آنذاك، كيفن مكارثي، إلى الانسحاب باعتباره “مأساة” وأسوأ كارثة في السياسة الخارجية منذ جيل، في رسالة موجهة إلى الجمهوريين في مجلس النواب.

ومزيداً من التأكيد على خطورة الوضع، اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مايكل ماكول، الانسحاب كارثياً ودعا إلى محاسبة المسؤولين الأمريكيين المشاركين في العملية. وقد انعكست هذه المشاعر على الرأي العام الأمريكي، كما كشفت استطلاعات الرأي المختلفة، حيث أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2021 أن 69 بالمئة من المشاركين يعتقدون أن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها في أفغانستان. وعلى نحو مماثل، كشف استطلاع للرأي أجرته شبكة “سي بي إس نيوز” أن 74% من المشاركين شعروا بأن الولايات المتحدة نفذت انسحاب القوات بشكل سيء. وحتى بين المحاربين القدامى الأمريكيين، أعرب عدد كبير منهم عن مشاعر الخيانة (73%) والإهانة (67%)، مع اعتراف الأغلبية بالتحديات التي تواجههم في التصالح مع نهاية الحرب. ويعتقد 70% من المحاربين القدامى أن الولايات المتحدة لم تغادر أفغانستان بشرف.

ضربة للقوة الناعمة الغربية

اكتسب مفهوم “القوة الذكية” خلال ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، قدراً كبيراً من الاهتمام في خطاب السياسة الخارجية الأمريكية. وينص هذا النهج، كما حدده جوزيف ناي، المسؤول الحكومي السابق والعميد السابق في كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، على أن الرئيس يجب أن يكون قادراً على الجمع بين القوة الصارمة، التي تتميز بالإكراه، وما يسميه ناي “القوة الناعمة” التي تعتمد بدلاً من ذلك على سياسة الجذب. وكان هذا بمثابة تحول عن سياسة القوة الصارمة التي انتهجها الرئيس جورج دبليو بوش. ومع ذلك، فإن المظاهر المرتبطة بالانسحاب الأمريكي قوضت مساعي واشنطن لتصوير نفسها على أنها بطلة حقوق الإنسان والمدافع عنها وعلى أنها قوة عظمى. وكانت الصور المزعجة، كصورة الأفغان الذين يتشبثون بشدة بطائرة أمريكية تغادر كابول والذين سقطوا  بطريقة مروعة، فضلاً عن المحاولات لتأمين خروج الأطفال الأفغان، تعتبر كلها مشاهد مؤلمة تذكرنا بسقوط “سايغون” في نهاية حرب فيتنام.

إن السجلات المرئية التي لا تعد ولا تحصى لأمريكيين يمنحون الأولوية لسلامتهم الشخصية على حساب الأفغان، تتناقض بشكل حاد مع الصورة التي تسعى الولايات المتحدة إلى إبرازها على مستوى العالم. وفي دراسة نشرت مؤخراً في ” المجلة الأكاديمية”، تم تقديم مفهوم جديد يسمى “المشاهدة السلبية”، والذي يؤكد على أهمية مراقبة تراجع القوة الناعمة لأي دولة، وما يترتب على ذلك من عواقب على مكانتها العالمية. ويرى مؤلف الدراسة أنه يمكن تقييم “النظرة السلبية” من خلال ثلاثة مؤشرات رئيسية، هي أنظمة الحكم في الدولة الدالة على شؤون الدولة الداخلية، والتصور عن الدولة من قبل سكانها، الذي يعكس نظرتهم، والتصور الموضوعي للدولة من قبل جهات خارجية. ومن خلال ملاحظة هذه المؤشرات، يصبح من الممكن قياس تدهور سمعة أي دولة، وهو ما يرتبط بتضاؤل قوتها الناعمة. وخلصت الدراسة إلى أن تراجع القوة الناعمة يرتبط بارتفاع التهديد الأمني للبلاد، فضعف موقف القوة الناعمة يشجع المنافسين، مما يشكل خطراً أمنياً.

وانطلاقاً من هذا الطرح، يمكن القول إن سمعة الولايات المتحدة العالمية تتدهور نتيجة لسلسلة من القرارات التي اتخذتها، بما في ذلك طريقة انسحابها من أفغانستان . ومن المحتمل أن تفسر هذه الظاهرة الحزم المتزايد لحلفاء واشنطن، مما يدفعهم إلى مقاومة بعض المطالب التي تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة ولكنها تتعارض مع مصالحهم.

التخلي عن الحلفاء وفقدان الثقة

وبينما سارعت القوات الأمريكية إلى الانسحاب من أفغانستان، تاركة شركائها الأفغان في مواجهة احتمال استيلاء طالبان على السلطة، تم استخدام الطائرات لنقل الحيوانات مثل الكلاب والقطط خارج البلاد، حيث كشف تقرير لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ أن ما يصل إلى 9000 أمريكي تركوا في أفغانستان خلال الانسحاب المشؤوم، وساءت الأمور عندما عرض إريك برينس، مؤسس شركة” بلاك ووتر”، وهي شركة عسكرية أمريكية خاصة سيئة السمعة، على الأفراد فرصة مغادرة أفغانستان مقابل رسوم قدرها 6500 دولار للشخص الواحد. وحتى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيون في أوروبا ردوا بمزيج من عدم الثقة ومشاعر الخيانة. وأعرب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل عن مخاوفه من أن “الانسحاب الفوضوي في أفغانستان يجبرنا على تسريع التفكير الصادق بشأن الدفاع الأوروبي”. كما أعرب عن هذا الشعور رئيس جمهورية التشيك، ميلوس زيمان، الذي وصف انسحاب القوات بأنه “خيانة”، وعلى نحو مماثل، أكد جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، على الحاجة إلى الحد من اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة، ومواصلة عملية صنع القرار بشكل أكثر استقلالية في أعقاب كارثة أفغانستان. وعلى الرغم من أن هذه الآراء لم تترجم إلى أفعال مهمة خلال العامين الماضيين منذ خروج القوات الأمريكية، إلا أنها تكشف عن الديناميكيات المهتزة للعلاقات التي تربط واشنطن بأقرب حلفائها.

الدروس المستفادة من أفغانستان

بعد مرور عامين، ما يثير الاهتمام ليس الانسحاب الكارثي نفسه، كما يصفه الغرب، بل إدمان الاعتماد على واشنطن وعدم التعلم من أحداث الماضي. وبعد حرب أوكرانيا، أصبح من الواضح أن عدداً لا بأس به من حلفاء واشنطن حول العالم، بما في ذلك حلفاؤها في غرب آسيا، بدأوا يتعاملون مع هذا الإدمان، وهو ما انعكس في رفضهم الانصياع للتوجهات الغربية ضد روسيا. وقد أدرك العديد من حلفاء واشنطن في غرب آسيا منذ ذلك الحين ضرورة تنويع علاقاتهم الدولية لمنع خطر تخلي الولايات المتحدة عنهم. وكان أحد الدوافع الرئيسية وراء انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان هو تخصيص الموارد نحو أولويات أخرى، وخاصة المناطق المحيطة بروسيا والصين. ولذلك، تعيد الولايات المتحدة تموضعها في غرب آسيا للتصدي على النحو الأمثل للتحديات الناشئة والصراع مع موسكو وبكين.  وفي الوقت الحاضر، ينصب قدر كبير من تركيز الولايات المتحدة على الصراع في أوكرانيا، حيث من الواضح أن كييف لم تستجب للدروس المستفادة من الوضع الأفغاني، ولكن من الواضح أن منطقة غرب آسيا انتقلت من ربط حظوظها بالكامل بأهواء واشنطن ورغباتها. وسواء كان الأمر يتعلق بتخلي الولايات المتحدة عن حلفائها الأفغان، أو استيلاءها من جانب واحد على مئات المليارات من الأصول الروسية في المؤسسات المالية الغربية، فإن زعماء المنطقة المؤيدين لأمريكا لم يعودوا يفكرون في وضع  رهاناتهم على واشنطن.

على العكس من ذلك، مع تركيز الولايات المتحدة بشكل أكبر على إحباط النفوذ الروسي والصيني، تتواصل دول غرب آسيا بأعداد أكبر مع مراكز القوة في موسكو وبكين. ومن الجدير بالذكر أن حليفين للولايات المتحدة، السعودية والإمارات العربية المتحدة، انضمتا مؤخراً إلى مجموعة البريكس، مؤسسة الجنوب العالمي التي تتحدى هيمنة الدولار اليوم. كما انضمت إيران كذلك، الخصم الرئيسي للولايات المتحدة، والرهان الآن على أن مجموعة البريكس ستعمل بشكل جماعي للقضاء على البترودولار، الذي يشكل تهديداً كبيراً للهيمنة المالية الأمريكية في جميع أنحاء العالم. وفي أعقاب الصراع الأوكراني، أصبح من الواضح أن جزءاً كبيراً من حلفاء واشنطن العالميين، بما في ذلك أولئك الموجودين في غرب آسيا، يضعون سيادة الدولة في المقام الأول من خلال تحديهم للإملاءات الغربية ضد إقامة علاقات أوثق مع الصين وروسيا.

إن ذكرى الانسحاب المذل للولايات المتحدة من أفغانستان، ستكون بمثابة تذكرة  للقوى الآسيوية المهيمنة، والتي لا تزال تحتفظ بعلاقات وثيقة وتعاونية مع واشنطن بمدى ضعف وعدم مصداقية الذي وصلت إليه القوة الأمريكية.