بعد بوركينا فاسو ومالي والنيجر والغابون.. فرنسا تنتظر قرار الدولة التالية؟
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي
لا شك أن سقوط المستعمرات الإفريقية القديمة كأحجار الدومينو في قبضة الانقلابات المتتالية وضع فرنسا أمام واقع سياسي واقتصادي صعب، حيث بدا الأمر كأنه هجوم منظّم على مناطق نفوذ فرنسا في القارة الإفريقية.
ولكن ردّ الفعل الفرنسي على آخر انقلاب عسكري استهدف أقدم حلفائها الأفارقة وأكثرها ولاء لها، وهو الغابون، كان مؤشّراً واضحاً على عجزها عن استدراك الموقف حيث جاء باهتاً واكتفت الحكومة الفرنسية بإدانة الانقلاب وطالبت بالعودة إلى النظام الدستوري لأنها أدركت أنها لن تضمن عودة الزعيم المخلِص لها علي بونغو أونديمبا إلى السلطة مجدّداً بعد أن اتسع الخرق على الراقع، وخاصة أنها لم تصحُ إلى الآن من صدمة فقدانها النيجر بانقلاب عسكري أطاح بهيبتها في إفريقيا بعد أن أعلن المجلس العسكري في النيجر إصراره على طرد السفير الفرنسي في نيامي. ورغم امتعاض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الانقلابات الحاصلة، لكنه لن يشارك بشكل مباشر في أيّ تدخل عسكري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، حيث تدرك فرنسا أن أيّ تدخل عسكري تشارك فيه سوف يلهم العديد من الدول الإفريقية الانقلاب على العلاقات مع باريس وربّما التخلص من نفوذها نهائياً في القارة.
الانقلاب الأخير في الغابون نجمت عنه خسائر اقتصادية واضحة لفرنسا، حيث علّقت شركة إيرميت الفرنسية أعمالها ثم عادت واستأنفت نشاطها في استخراج المنغنيز، لأن أنشطة التعدين التي تقوم بها إيرميت في الغابون تجعلها أكبر منتج لخام المنغنيز العالي الجودة لصناعة الصلب في العالم. وأدّى التوقف المؤقت إلى انخفاض أسهم الشركة بنحو 17% في التداول اليومي لسوق الأوراق المالية في باريس، ويعدّ المنغنيز رابع أكثر المعادن استخداماً في العالم بعد الحديد والألمنيوم والنحاس.
والغابون من أغنى بلدان إفريقيا من حيث امتلاكها للمواد الخام كالنفط والمعادن والأخشاب. ويشكّل النفط 75% من إجمالي صادراتها وهي غنية أيضاً بالحديد واليورانيوم. ولا تنوي شركة بورتزامبارك، المسؤولة عن إدارة الأصول والتابعة لبنك بي إن بي باريبا الانسحاب من الغابون لأن التكاليف هناك هي من بين الأدنى في العالم. ورغم قلقهم من إمكانية تعليق أنشطة تعدين المنغنيز لوقت طويل وتأثير ذلك في الأرباح، إلا أنهم متفائلون بأن أسعار المنغنيز لا تحدّدها البورصة بل تحدّدها وكالات تصنيف الأسعار.
ولا يعود تمسّك فرنسا بالدول الإفريقية إلى غناها بالثروات المعدنية فقط، بل إلى الخوف من أن تصبح هذه الظاهرة عدوى سياسية لجميع الأنظمة الموالية لها في العالم، ففي الوقت الذي تناضل فيه هذه الدول للتخلص من الاستعمار الذي يستنزف ثرواتها ومقدّراتها، تحاول باريس جاهدة إيقاف أحجار الدومينو عن التساقط خوفاً على هيبتها في العالم التي تآكلت كثيراً مع بداية بروز رفض شعبي واسع للوجود الفرنسي في إفريقيا بالكامل وليس فقط في الغابون، وهذا بدوره سيؤدّي إلى اهتزاز الثقة بفرنسا حول العالم، وخاصة أن هذا الانقلاب سبقه سبعة انقلابات عسكرية في كل من مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر منذ 2021 حتى الآن.
ولا شك أن خسارة فرنسا للنيجر هي خسارة استراتيجية لأن الوجود الفرنسي العسكري في النيجر له أهمية أكبر من وجودها في الغابون، ولكن عدم اتخاذ إجراءات ضد الأنظمة الانقلابية والقبول بشرعية الأمر الواقع، سيشجّع الدول التي تمتلك قوة عسكرية على الانقلاب، وتكرار المحاولات في الدول الإفريقية للخروج من العباءة الغربية وخاصة الفرنسية، وهذا أكبر إشارة ربّما على فقدان فرنسا نفوذها في القارة مقابل تزايد النفوذين الروسي والصيني اللذين أوشكا على استلام الملفات الأمنية والعسكرية والاقتصادية بدلاً منها.
الغابون التي تقع في غرب وسط إفريقيا، وتمثل إحدى أكثر دول المنطقة تقدّماً والأعلى في مؤشر التنمية البشرية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وأطلق عليها مؤخراً لقب “عملاق النفط” الإفريقي، وحكمها ثلاثة رؤساء موالون لفرنسا منذ استقلالها عنها، تتمتّع بثروات هائلة من النفط والمنغنيز والحديد والذهب يسيل لها لعاب الشركات الأجنبية، وبالتالي فإن خروج هذه الثروات من التداول الفرنسي سيؤدّي إلى خروج ثروات مماثلة في دول أخرى إفريقية بالعدوى، وإحداث فراغ في السوق ستسدّه حكماً كل من الصين وروسيا.
وهذا بالطبع سيجعل مجموعة بريكس تستقبل مزيداً من الدول الإفريقية في عضويتها بغض النظر عن “الديمقرطية” كما تراها واشنطن وفرنسا وبريطانيا، وخاصة أن القمّة الروسية الإفريقية الأخيرة في سانت بطرسبورغ في 27 تموز 2023 فتحت الباب واسعاً أمام نموّ العلاقات بين الطرفين، وخاصة في مجال الأمن الغذائي الذي يشكّل حاجة أساسية للدول الإفريقية الفقيرة مع استخدام الغرب الحرب في أوكرانيا ذريعة لمنع وصول القمح والأسمدة الروسية إلى الدول الإفريقية في الوقت الذي أكّدت فيه موسكو تزويد هذه الدول بحاجتها منها مجاناً، وبالتالي فإن مزيداً من الانقلاب على النفوذ الغربي وخاصة الفرنسي ستشهده القارة قريباً.
والمشكلة باختصار أن الخطر يكمن في عدم قدرة فرنسا على المساعدة، وسجل أمريكا الضعيف في إبقاء إفريقيا إلى جانب “القيم الديمقراطية”، وهذا يفتح الباب واسعاً أمام روسيا والصين وأعضاء بريكس المقبولين حديثاً كإيران الذين يتطلعون إلى تمويل إفريقيا وتبادل المصالح الاستراتيجية، كما أن الخطر واضح بعد أن زوّدت الجزائر الصين بميناء على البحر المتوسط، وساهمت جيبوتي بميناء على القرن الإفريقي، وقد تمنح الغابون الصين ميناء على المحيط الأطلسي، وهذا الأمر سيجعل الغرب بأكمله خارج اهتمامات إفريقيا، بل سيحرج فرنسا وجميع حلفائها المقرّبين بما فيهم الولايات المتحدة من القارة، وهذا يشكّل مؤشراً واضحاً على بداية تغيير واضحة في شبكة العلاقات الدولية.
في جميع الأحوال، يبدو أن المشهد في القارة الإفريقية مرشّح كثيراً للتطوّر في الاتجاه ذاته، حيث ستبدي الأيام المقبلة مزيداً من النزعات الإفريقية للتحرّر والانعتاق من الهيمنة الغربية، والفرنسية خاصة، وربّما يتحول المنجم الإفريقي إلى أداة في تشكيل نظام عالمي جديد، بينما يظهر واضحاً السحر الروسي الصيني في التأثير في القرار الإفريقي، وخاصة بعد تأكّد ميل المزاج الشعبي في القارة إلى الشراكة مع هذين العملاقين، فمن هي الدولة الإفريقية التالية التي تخرج من العباءة الغربية؟.