التكعيبية الحاملة شخوصها من التاريخ والأساطير بريشة تغريد الشيباني
ملده شويكاني
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت
عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمتُ تسليم البشاشة أوزقا
إليها صدى من جانب القبر صائح
هذا ما قالته ليلى الأخيليّة على قبر حبيبها توبة بن الحمير الذي دفنت إلى جواره، ليخّلد التاريخ والأدب قصتها التي تعد من أشهر قصص الحبّ في الأدب العربي في العصر الإسلامي.
وقد استمدت الفنانة تغريد الشيباني إحدى لوحاتها المميزة من قصة ليلى الأخيلية، إذ خطّت هذه الأبيات باللون الأبيض على ذراعها لينسحب فوقها اللون الأزرق المتداخل مع عناصر اللوحة التعبيرية الرمزية لوجهي العاشقين بالتركيز على العين، في معرضها الفردي الذي أقيم في المركز الثقافي العربي –أبو رمانة- بعنوان” ترانيم الحجر والشجر” وكان حافلاً بموضوعاتها التي استلهمتها من التاريخ والتراث والأساطير، إضافة إلى الكثير من مشاهداتها الإنسانية.
وقد اعتمدت على التكعيبية بتبسيط الخطوط والأشكال الهندسية الحاملة شخوصها ومكونات اللوحة في مجموعة، بينما بقيت المجموعة الأخرى ضمن إطار التعبيرية الرمزية، كما أفردت مساحة للوحات رسمتها عن منحوتات الفنان بسام طحان المقيم في باريس.
اتسمت لوحاتها بكثرة التفاصيل التي شغلت فضاء اللوحة، وثمة تقاطعات من حيث الأقنعة التي غطت الوجوه والعين، إضافة إلى أحجار الشطرنج التي وظّفتها بصورة مباشرة حيناً وبتورية مستخدمة التضاد اللوني الأبيض والأسود بتحديدات مدروسة، وكانت الأنثى بطلة في أغلب أعمالها مع توهج قوة اللون الأصفر والأزرق والبنفسجي بأحجام مختلفة، تألق بعضها بالدهان الدمشقي.
منحوتة طبيعية
بدأت “البعث” الحديث معها من العنوان” ترانيم الحجر والشجر”: العنوان يعبّر عن الموسيقا التي يعزفها الحجر من خلال تأثره بالعوامل الطبيعية فشبهتُ الإنسان بالحجر الذي يتأثر بكل ما يدور حولنا فيتغير شكله وتفكيره ومزاجه، فكأننا نتعرض للنحت. ولكن رغم كل ذلك فنحن مستمرون وموجودون حتى وإن أزيح الحجر من مكانه إلى مكان آخر إلا أنه يبقى صلباً ويحافظ على مكوناته، كذلك الأشجار رغم تساقط أوراقها تعود لتزهر من جديد، حتى إذ يبست أغصانها تبقى جذورها متمسكة بالأرض ونصنع منها منحوتة طبيعية تزيّن المكان، وهذا ما قصدته بالنسبة للإنسان الصامد القوي المتمسك بأرضه وجذوره.
جفاف العلاقات الاجتماعية
ورغم تنوع موضوعاتي إلا أنها تنصب كلها ببوتقة الإنسانية إن كان امرأة أم رجلاً أم طفلاً، منطلقة من فكرة أن المرأة جسد وروح فهي ليست للتزيين، وإنما عنصر فعّال بالمجتمع وتملك القدرة على اتخاذ القرار والتغيير، مستحضرة شواهد خلدها التاريخ جسدتها في لوحاتي مثل حكاية زرقاء اليمامة في العصر الجاهلي التي اتصفت بحدة البصر والنظر من بعد ونبهت قومها إلى قدوم العدو بقولها” الأشجار تمشي”، لكنهم لم يصغوا إليها فهلكوا، ومن ليلى الأخيلية العاشقة، ومن آلهة الحب عشتار التي دمجت فيها الشمس والقمر الذي يأخذ نوره من الشمس المتوهجة بقوة اللون الأصفر، وأردتُ التعبير من خلالها عن جفاف العلاقات الإنسانية الاجتماعية، جفاف الصدق جفاف الحبّ، فنحن بحاجة إلى النور الإلهي ليضيء حياتنا، برمزية اللون الذهبي إلى نشر الخير وإلى غد أفضل بوجود الأطفال الذين يتربون ويعيشون بأسلوب مختلف عن الأسلوب الذي نشأنا عليه، فأدعو إلى العودة إلى ما نشأنا عليه إلى العلاقات الأسروية السليمة، وإلى التمسك بالقيم النبيلة والمحبة.
لوحة الزلزال والنهوض
وتوقفتُ معها عند لوحة الزلزال وتجسيد الصدمة بانهيار المنازل وانسدال الخطوط السوداء، لكن لابد من النهوض، ففي الجانب الآخر من اللوحة جسدت نهوض الرجل والمرأة والأطفال رغم آلام الفقد لمتابعة الحياة والاستمرار بدلالة اللون الأخضر وانتظار سنابل القمح، فعبّرت عن الصدمة بغياب الألوان عن الوجوه وانعدام الرؤية، ودلالة الأسود على الدخان والانهيار والرماد، أما الأصفر فأكد على النهوض من جديد.
قوة اللون
أما عن التقنيات فعملت على التداخل بين المدارس بطغيان التعبيرية الرمزية إلى جانب مجموعة تكعيبية بألوان الزيتي والإكليريك، إضافة إلى خامة الدهان الدمشقي النافر في بعض اللوحات، وبدور الخطوط البسيطة التي تعطي فكرة وافية وشاملة عن المضمون بطريقة غير مباشرة بعيداً عن الواقعية، ما يسمح للمتلقي أن يقرأ اللوحة وفق رؤيته وإحساسه، أما عن اللون ففي المجموعة الأولى ركزت على قوة اللون بينما اعتمدتُ بالمجموعة الثانية على التظليل والتدرجات اللونية.
لكل عنصر هدف
ثم عقبت على سؤالي عن إمكانية إرباك المتلقي باكتظاظ التفاصيل في فضاء اللوحة بين الأحجار والأزهار والزخارف والأقنعة وسنابل القمح وانثيالات لونية، بأن اللوحة تتألف من عناصر متكاملة وكل عنصر يشغل مكاناً في فضائها له هدف، ويترجم حالة، فالأقنعة في أغلب اللوحات كانت دلالة على البحث عن الوجوه الحقيقية غير المزيفة، فكثيرون يضمرون عكس ما يظهرون، وكذلك أحجار الشطرنج لأننا نعيش داخل لعبة الحياة، وهناك من ينسحب من مسرحية الحياة كما رُسمت وليس كما يريد، فيلجأ إلى الانعزالية، وبالتأكيد ليس هذا هو الحلّ.
رسم المنحوتة
أما اللوحات الصغيرة التي رسمت فيها منحوتات الفنان الحلبي بسام طحان المقيم حالياً في باريس والتي يركبها من الأحجار الموجودة في الأرض. وكانت نوزيكا إحدى بطلات ملحمة الأوديسة منحوتة نقلتها الشيباني إلى لوحتها بعد أن أضافت إليها توشيحات لونية، كما أضافت أفكاراً جديدة إلى المنحوتات.
لنصل في نهاية الحوار إلى رسالتها من المعرض بأن يحيا الإنسان بقيم جميلة ويسعى إلى الإنسانية والمحبة، فالمجتمع السليم يحتاج إلى إنسانية سليمة، وهذا لا يتحقق إلا بالعودة إلى القيم النبيلة والأصالة.