ثقافةصحيفة البعث

الحداثة الأولى في الشعر العربي

 فيصل خرتش

عادة ما يرتبط مفهوم “الحداثة” بالمنجز الحضاري الأوروبي وبتجلَياته المختلفة التي شملت مختلف العلوم والمعارف وطريقة التفكير والحياة المعاشة والسلوك اليومي، فهل ينطبق هذا المفهوم على المنجز الحضاري العربي؟ وهل نستطيع إجراء مقايسة تشتمل على مطابقة لخصوصية التجربة الحداثوية العربية، بالمقارنة مع تجربة الحداثة الأوروبية أو الغربية تحديداً.

إنَ الحديث عن تجربة عربية يجعلنا مشدودين إلى تماهي حداثي مع ما أنتجه الغرب ابتداء من تغيير عقلية تفكيرنا إلى البيت الذي نسكنه، وانتهاء بقصيدة ما بعد الحداثة، ومفهوم الحداثة لم يظهر في الغرب إلا ما بعد منتصف القرن التاسع عشر مع بدايات التحول الاقتصادي والاجتماعي والانتقال من القرون الوسطى إلى المجتمع الأكثر تطوّراً، بما يحمله من فكر يعزز الملكية الفرية واستقلالية العقل وحرية الإنسان وتفكك بيروقراطية الدولة، وقد خلق هذا التحوَل حالة انقسام في المجتمع وفرز بين أنصار القديم وأنصار الجديد، وهذا ما نجده عند كلَ الأمم والشعوب، فهل ينطبق هذا الفرز على أدبنا العربي في عصوره القديمة؟ وهل هناك حداثة بدون تغريب؟

بلور الشعر من خلال بودلير وما لارميه وتجربتهما الخاصة مفهوماً شديد الخصوصية للحداثة، لأنها عندهما مغامرة تقف عند حدّ سلخ اللغة من قديمها وتحميلها بالجديد الدائم في المفردة والبناء، كما أطلقا للخيال حرّيته ليلاحق الصورة الهاربة المتوالدة من مركز الجملة الشعرية لا من خارجها الجمالي، وبذلك امتلأت القصيدة بالحيوي واليومي والمعاش في إطار علاقات لغوية متفجرة من جدّة لغوية حارة وطازجة تعطي للمتخيل قدرة هائلة على توليد وابتكار الجديد متخلياً عن لغة البلاغة الإنشائية المتوارثة وعلى نسغها، وقد سار مبدعو الحداثة في مغامرتهم إلى عصرنا هذا.

وشعرنا العربي منذ أقدم النصوص المعروفة يتصدّى دائماً مواقع الجديد والاستكشاف، وعلى ذلك فإنّ ناقداً ودارساً للشعر العربي كـ أدونيس مثلاً، يجد مظاهر الحداثة في أدبنا العربي، تعود إلى القرن السابع الميلادي، في نقاط معينة، هذه الحداثة بين القديم السلفي والجديد المعاصر لزمانه، وقد أخذ شكل هذه الحداثة صراعاً عنيفاً مسّ بنية المجتمع الغربي للدخول به إلى المجتمع المدني، وقد تمثل ذلك بالخوارج وثورات الزنج والقرامطة والحركات الثورية المتطرفة، وفي معنى آخر تمثل في أشكال ثقافة متعددة كالاعتزال والعقلانية وبعض مذاهب المتصوّفة، وأما في التيار الإبداعي فقد تجلت الحداثة في أروع صورها عند بشار بن برد و والبة بن الحباب وأبي نواس، وغيرهم من روّاد التجديد والحداثة الذين ساهموا في ربط الشعر بالحياة اليومية.

لم تبدأ الحداثة في الخمسينيات مع حركة التجديد في الشعر غير أنّ الصراع حول الحداثة ظلّ متواتراً مع هذا التجديد، لأنّ الشعر هو ديوان العرب، له قواعد وضبوط تمسّ المقدس، لذلك اعتبر المساس بهذه القواعد انتهاكاً للمقدس واستدعى النيل من الشكل الشعري معارك عنيفة وصلت ذروتها زمن “الحداثة العباسية”، ولم تكن هذه الحداثة إلا نتيجة تحوّل فكري جذري أصاب بنية التفكير العربي في نقاط معيّنة عبر التاريخ الأدبي والفكري الذي يمتدّ مئات السنين، وكان ذلك بسبب الاحتكاك بالأقوام الأخرى واستيعاب ثقافاتها ومشاركة هذه الأقوام بالحياة اليومية وانقطاعها عن جذور الثقافة العربية.

الحداثة العباسية كانت تأكيداً على الحرَية وإعلاء لدور العقل، فدارت حول الصراع بين الحضارة والبداوة، كما دار الصراع بين العقل والنقل، إنها انتقال من القبول إلى التساؤل، وهذا الصراع تابعه المفكرون القدامى بعنف وقوّة لإبراز تجلياته ومعالجة قضاياه المعاصرة في ذلك الزمان، فقد مثلت الحداثة لهم قطيعة مع الماضي وتمسكاً بحاضرهم، إنها المروق من الزاوية الضيقة للمألوف وصولاً إلى غير المألوف، من المعروف المتداول المكرور إلى الجديد والمبتكر.

وإذا عدنا إلى مطلع العصر الأموي سنتوقف عند قول لأبي عمرو بن العلاء الراوي الذي كان يعجب بفنية شعر المحدثين، لكنه كان يحجم عن روايته، حفاظاً على قدسية القديم ثم صار هذا المحدث يدخل في قدسية القديم، وهكذا تتابع الحداثة رسالتها. يقول أبو عمرو بن العلاء: “لقد حسن هذا المولد حتى هممت بتدوينه”، وكان يقصد بذلك شعر جرير والفرزدق ومعظم رواد الشعر كالأصمعي وابن الأعرابي سلكوا مسلك أبي عمرو بن العلاء في عدم تدوينهم لشعر أبناء عصرهم لا لشيء إلا لأنه معاصر لهم ويعرفون قائله رغم إعجابهم به، وهذا ما حصل مع اسحق الموصلي وابن الأعرابي وأبي نواس وغيرهم كثير، لأن دراسة النحو العربي ارتبطت بالشعر حرصاً على لغة الاحتجاج، فكان لا بد من الوقوف في وجه أي محولة لزعزعة البنيان اللغوي بسبب قداسة النص الذي تحدث بها.

وقد أثر هذا الكلام على حركة الحداثة في الشعر لأن أصحابه كانوا مكتوفي الأيدي أمام شعر الاحتجاج ورفض شعر المحدثين جملة وتفصيلاً من قبل رواة الشعر، ولم يحتج به أبداً وربما كان ذلك دافعاً قوياً للمحدثين كي يدعموا نفوذهم داخل ظاهرة الحداثة السائدة إلا فيما كان يخص مخاطبة السلطة السياسية وسلطة اللغة، ولم يمنع بعض النقاد القدماء من رواية بعض شعر المحدثين مغامرة منهم لاستحسانهم لهذا الشعر وها هو المبرد يحترز بقوله، بعد ذكر اسم الشاعر: ” وإن لم يكن بحجة لكنه أجاد للاحتجاج به”.

إن حركة الزمان هي التي تعطي للحداثة استمراريتها وطبيعة التقلبات التي مرت على المجتمع العربي بعد الإسلام غيرت في مجمل الذوق العام من البداوة إلى تلمس الحضارة والانصهار بها وانعكس ذلك على اللغة والأدب وأصبح الشعر يميل إلى الصفاء والسهولة والعذوبة، وجعل واحداً من مثل أبي نواس يرد على نقاد عصره، بقوله:  لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند/  واشرب على الورد من حمراء كالورد

بل إننا نستطيع أن نصنف الشعر إلى شعر مدني يميل إلى السلاسة والرشاقة ويدور في شعر المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين ومدن العراق فيما بعد، وشعر البادية الذي كان يميل إلى الجزالة والوعورة والغريب الوحشي، وعلى هذا فقد كان لكل شاعر معجمه اللفظي الذي يقتات به، فإذا ما خرج من القصر، قال: يا قوم أذني لبعض الحيَ عاشقة/  والأذن تعشق قبل العين أحياناً

وحين يعود بشار إلى القصر يرجع ومعه مذهب القدماء، في فخامة الكلام وجزالته من غير تصنع، كما أشار إلى ذلك ابن رشيق في كتابه العمدة: إذا ما غضبنا غضبة مضرية/  هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما… إذا ما أعرنا سيدا من قبيلــــة/ ذرى منبر صلَى علينا وسلمــــــــــا

وقد أدرك شعراء الحداثة الأولى أهمية البعد المكاني فراحوا يعبرون عما يحيط بهم من وسائل الحضارة فتناولوا في شعرهم صفات الخمر والقيان والأباريق والكؤوس وباقات الزهر ووصفوا المرأة بشكل حسي فاضح، ولم يتركوا شيئاً فيها إلا وتناولوه بوصف جمالي ينم عن ذوق حضاري منفتح، كذلك وصفوا جماليات المكان التي تتجلى في الرياض والقصور والبرك كما نفروا من وصف الإبل وحياة البادية والقفار وحمر الوحش والوعول والبقر لرغبتهم عنها، وعدم معرفتها، لقد كانت هذه الظواهر نتاج مناخ معين فرضته طبيعة الزمان والمكان لينعكس على اللغة والأدب ويمثل حداثة المكان والانصهار فيه وعدم النفور منه أو الغربة عنه، ويمكن تتبع تجليات الحداثة في شعر كثير من شعراء ذلك العصر، كما عند ابن المعتز وابن الرومي وبشار بن برد وأبي نواس والعباس بن الأحنف، وما حداثة أبي تمام بخافية على أحد لأنه جاء بخلاف ما كانت عليه العرب.

استطاع شعراء الحداثة الأولى إذاً أن يعيشوا التطور الحضاري الذي أحاط بهم آنذاك واستوعبوا هذا التطور في شعرهم بل إنهم طوعوا أدواتهم التعبيرية لتشمل كل مضمون مستحدث لإشباع حاجة العصر الجمالية والفنية، كما أنهم طوعوا لغتهم لهذا المستحدث وخفت أوزانهم ورقت ألفاظهم لتكون النقلة الحضارية الأولى إلى المجتمع السائد، مما سينعكس على القوانين والعقل وحرية الفرد وحقوقه المدنية، وهذه الاستطاعة التي تجلت في الشعر ساهمت إلى حد كبير في حريَة التعبير وأتاحته إلى نقلة جديدة يعيشها الإنسان العربي آنذاك بإنسانية وحرية وتجلت هذه الحداثة في كافة وسائل التعبير لتكون رابطة تقود إلى الحداثة الثانية التي قادها جبران والريحاني والسياب ونازك الملائكة.