مجلة البعث الأسبوعية

فلسفة الأدب الصيني بين لون الحكمة وفراغ اللون.. يكتب ذاكرته وأفكاره وحياته ومخيلته وواقعه وطموحه وأحلامه وعوالمه المتنوعة

البعث الأسبوعية – غالية خوجة

تشتهر الحضارة الصينية بغورها التأريخي، ونموها عبْر العصور، وأسلوبها المميز بالتعامل مع الحياة بفنون، ومع الفنون بحياة، ومعمارها الخاص والذي ما يزال شاهداً ومنه سور الصين، وفلسفتها للما ورائيات من خلال المرئيات، واختراعها لما لا يحصى في كافة المجالات، وسيرتها الثقافية والحضارية مع العالم، ومنها “طريق الحرير” القديم، والمستقبلي، وحكمتها وفلسفتها وآدابها وفنونها وقيمها الإنسانية.

الكلاسيكيات فضاء سحابي

منذ أكثر من 3000 سنة والأدب الصيني يكتب ذاكرته وأفكاره وحياته ومخيلته وواقعه وطموحه وأحلامه وعوالمه المتنوعة وفي كافة المجالات والمواضيع الحكمية والتأريخية والفلسفية والعلمية والسياسية والحياتية، وبمختلف الأجناس الأدبية.

ويعتبر “كتاب الأغاني” العائد للقرن الحادي عشر قبل الميلاد هو الأقدم حتى الآن، ويضم 300 قصيدة اختارها كونفوشيوس من أصل 3000 تفادياً للتكرار، موزعة إلى أغاني الزراعة والحب والحرب والزفاف والقرابين الدينية والطقوس الحياتية.

أمّا أقدم الأعمال النثرية الصينية فهو كتاب “الوثائق” المتمحور حول خطابات تعود في أغلب الظن إلى حكام الصين الأوائل، وأقاصيصها التي كتبت في عصر حكومة تشو.

وشكّل الكتابان مع ثلاثة كتب أخرى الكلاسيكيات الخمس التي تأسست عليها الكونفوشية كفلسفة أخلاقية وجمالية قابلة للتطبيق الواقعي، وتعود لمؤسسها كونفوشيوس (551-479 ق.م)، وسادت مع كل من البوذية والتاوية، وكان لهذه المذاهب أثرها في الأدب الصيني.

والملاحظ، أن التاوية التي انطلقت في القرن الرابع ق.م، منحت الناس فسحة بعيدة نوعاً ما عن الالتزامات الاجتماعية، وهيأتهم ليتقرّبوا أكثر من الطبيعة والحياة المبسطة العفوية، وهذا الاقتراب هو ما يطارده الشعراء على أية حال، لأنهم يرونه مساحتهم التعبيرية الحرة، ولذلك، أنتج الكثير منهم أعمالاً اختلفت عن الكلاسيكية التقليدية، وتداخلت مع كلاسيكية الحداثة.

ومعروف أن مراحل الأدب الصيني وتطوراته مرتبطة بمراحل تأريخية تنسب إلى الأسر الحاكمة، ومنها كل من مراحل الأسر التالية: “شانغ/1700ـ1050 ق.م”، “تشو/255ـ1045″، “تشين/221ـ206 ق.م”، “هان/ 206 ق.م-220م”، “تانغ/618ـ907م”، “سونغ/960ـ1279م”، “يوان/1279ـ1368م”، “مينغ/1368ـ1644م”، “تشينغ/1644ـ 1911م”، وبدأ الأدب الصيني حداثته مع انتهاء سلالات الأسر الحاكمة منذ عام 1912 ميلادي، وافتتحت الكتابة على الثيمة السياسية أكثر، وانحازت مع الحزب الشيوعي الحاكم إلى العمال والفلاحين والإنسان الكادح مع عام 1923، وفاضت بإنسانيتها المتنوعة خلال هذه الفترة وما تلاها وصولاً ليومنا الحالي.

بلا شعر ونثر يعني بلا وظيفة حكومية

ولشدة احترام الصينيين للخدمات الحكومية، كان لا بد لمن يريد وظيفة حكومية أن ينجح في جميع الاختبارات ومنها اختبار خاص بنظم الشعر وكتابة النثر، وهذا ما كان سائداً لأكثر من ألف عام لغاية بداية القرن العشرين، وهكذا كانت أغلبية الكتّاب الكبار من الموظفين الحكوميين لمهاراتهم الكتابية والإبداعية، مما ينعكس على التعامل الاجتماعي المهني المثقف، وعلى التطور الخبير المستدام.

جذور القصيدة الصينية

نبتت القصيدة الشعرية بصورها المختلفة التصويرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية والذاتية والتأريخية والطبيعية والرومانسية والواقعية والخيالية والتجريدية منذ القدم، خصوصاً، وأن اللغة الصينية التي نحتفل بيومها العالمي كل 20 نيسان، بحدّ ذاتها، لغة تشعرنا برهافتها وطريقة كتابتها الأقرب إلى الرسم والرمزية، لذلك هي لغة شعرية فنية أيضاً، وفيها يتوزع الشعر إلى أربعة أقسام، هي “شي”، “نسي”، جو”، و”فو”، إضافة إلى فن القصيدة الحرة الحديثة.

ومن أهم الثيمات الجمالية تلك الشبكة المدلولية الناتجة عن تداخل الموسيقا مع المعاني والرسم والحكمة والفلسفة، وهذا يجعل الكاتب الصيني رساماً أيضاً، وغالباً الشعراء فلاسفة وحكماء ورسامون أيضاً، لأن الرسم الصيني بدأ مع التصوير الكتابي وتحويله إلى أعمال فنية.

ولذلك، فإن الشعر الصيني ورغم نسقه الدلالي الذي يبدو صريحاً نوعاً ما إلاّ أنه يخفي الكثير من الأنساق الإيحائية والإيمائية والمدلولية المتحركة في عمق القصيدة التي انطلقت بحيوتها الكلاسيكية إلى حيويتها المتفردة، ويذكر التأريخ الشفاهي والمكتوب بأن أول شاعر صيني هو “تشيوى يوان” المولود في عصور ما قبل الميلاد، ويعتبر مؤلفه “لي شاو” مرجعاً إلهامياً للأدب المحلي الصيني والعالمي.

بينما في عصر أسرة تانغنال الشهرة الأكبر أربعة شعراء، أولهم الشاعر “وانغ وي” الشهير برباعياته التأملية المتكاشفة مع الذات والروح والمحيط والطبيعة وما وراء الطبيعة مع حفاظه على أبعاد القيم الأخلاقية المتداخلة مع البوذية، ولعله يذكرنا برباعيات عمر الخيام باحتمال ما، وبقصيدة “الهايكو” اليابانية.

وثانيهم الشاعر “لي بو” السارح في خياله القصصي الشعري وبطريقة صينية قديمة، ويبدو أن مزاجه الذاتي أقرب إلى الشاعر أبو نواس، ويتقن فنون الدفاع عن النفس والمبارزة العنيدة مثل أبي فراس الحمداني، وميوله أقرب إلى الفلسفة التاوية، ورحالة في المكان والمخيلة، كما أنه التقى عام 744 بمنافسه الشاعر “دو فو”، وشكّلا ثنائياً يتبادل الجماليات، ولعل حدث التقائهما يذكّرنا بالتقاء الشاعر الفرنسي آرثر رامبو مع الشاعر بول فيرلين، أو التقاء الشاعر الأمريكي الإنكليزي ت.سإليوت مع الشاعر عزرا باوند، وتتسم قصائده بصورها التصويرية التجريدية ضمن فراغها الطبيعي، ومن أبياته، نقرأ: “أيها الشعر الخالد، إن ألحان شوبنج لشبيهة في روعتها بالشمس والقمر، أما قصور ملوك جو وأبراجهم، فآثارها فوق التلال”.

وثالثهم الشاعر “دو فو” الذي تحدّى نفسه فطورها شعرياً كونه لم يحصل على الخدمة الحكومية ـ الوظيفة العامة، لأنه رسب في ذاك الامتحان يومها، ولذلك، تداخلت وجدانياته التعبيرية مع تلك اللحظة وأبدع ليس في كتابة القصائد فقط، بل جدّد في الأسلوب الشعري واللغة الصينية مما جعله مؤثراً في المشهد الشعري الصيني خصوصاً، والأدبي عموماً، تأثيراً متواصلاً حتى الآن، وهو من هذه الناحية التأثيرية الفنية قريباً، ربما، من المتنبي، ومن شكسبير، ومن قصائده، نستشفّ الحواريات مع مكونات الطبيعة وألوانها الديالوغية واسترسالها المونولوغي، ومنها هذه الصورة الشعرية التصويرية التجريدية: “أمام جبل خوان تشان”: “خضرة شامخة لا نهائية، أودع فيها خالق الكون كل جمال الطبيعة الخالص”.

ورابعهم الشاعر “بو جويي” وشعريته القصصية الساخرة الناقدة للسياسة الصينية، المتناولة لمواضيع حياتية على كافة الأصعدة.

وظهرت في القرن التاسع عشر ملامح جديدة للشعر الصيني المعاصر، أضافت حركة لبنيته اللغوية والمدلولية من خلال متغيرات الحياة، لكن القصيدة ظلت متشبثة بتلميحاتها لا تصريحاتها، وتماوجت بتناغمها كما تتماوج خطوط الرسم لتبدو ورغم آلامها راقصة مع تأملاتها في حيّز آخر، ومنها قصائد الشاعرة شوتيينغ المولودة عام 1952، التي تكتب المعنى ما قبل الأخير بهندسة عفوية تكتمل من خلال القصيدة كوحدة كبرى مرتكزة على وحداتها الصغرى، فتفتح الأشعة بينها والعالم، كما في قصيدتها “إلى جيلي” ومنها هذا المقطع: “حين يكونون في السماء، يتمنون نجمة، وحين يكونون على الأرض، يتمنون مصباحاً، لا يهم إن كان الضوء خافتاً، المهم أن يكون كافياً”.

منصة “أبو الفنون”

ماذا نتوقع أن نشاهد عندما ترفع الستارة عن منصة مسرح صيني ما؟

تتشابك مع أبي الفنون الصيني عدة فنون معاً لتضع المُشاهد على المنصة، وتجعله متفاعلاً مع الأبعاد الدرامية التراجيدية والكوميدية، ويتحرك النص المسرحي بدلالات شعرية لا تتخلّى عنها اللغة الصينية حتى على المسرح الذي يضيف للحوار بقسميه الداخلي والخارجي الغناء والموسيقا، مما يجعل المسرحيات أشبه ما تكون بالأوبرا الأوروبية بخصوصيتها الصينية، وأشهرها ـ تمثيلاً لا حصراً ـ كل من المسرحيتين اللتين كتبتا في القرن الثالث عشر: “الغرفة الغريبة” للمؤلف وانغ شيفو، “ظلم تاوا” لمؤلفها غوان هانكنغ، بينما لمعت مسرحية “سرداب الباوانيا” لمؤلفها تانغ زيان زو في القرن السابع عشر، كما برزت رباعية الكاتب المسرحي تساو يوي “العاصمة الرعدية، الشروق، المروج، سكان بكين”.

السرد بين الحكاية التراثية والفنيات المعاصرة

لكل شعب من الشعوب ذاكرته الموروثة شفاهة وكتابة، ومنها حكاياته وخرافاته وأساطيره وملاحمه، وبلا شك، تتسرب، بطريقة ما، من الذاكرة الجمعية إلى الذاكرة الفردية، وتتفاعل مشاهدها وأحداثها وشخصياتها مع طاقات كل راوٍ أو حكواتي.

وتبدو براعة الصينيين في كتاباتهم الحكائية والسردية، ومنها كتابتهم لحكاياتهم التأريخية والاجتماعية بكيفية قصصية فنية، يبدو بعضها غير منسوب لأي مؤلف، وكأنها سرد جماعي على غرار “ألف ليلة وليلة” مثلاً، ومنها رواية “رومانسية الممالك الثلاث”، التي يبدو كاتبها مجهولاً، لكنهم ينسبونها إلى الكاتب “لو غوانز هونغ”، وثيمتها الموضوعية تتمحور حول النزاع على السلطة بين 3 دول، وأحداثها جرت في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن التاسع عشر.

بينما تناولت رواية “احتياطي الماء” عصابة خارجة على القانون، تحركت شخصياتها في القرن الثامن عشر، ولم يحسم الصينيون نسبتها لمؤلف ما، ومثلها رواية “زهرة اللوتس الذهبية” المكتوبة في القرن السادس عشر والتي ظل كاتبها مجهولاً.

ومع القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وبعد انفتاح الصين على العالم لا سيما أوروبا، لمعت نتاجات مختلفة لأسماء كتاب صينيين منهم: الكاتب لوشونو كان هاجسه القصص القصيرة الناقدة اجتماعياً، ومن أعماله “يوميات مجنون”، والكاتب لاو شه الملقب بفنانَ الشعب لأنه الأقرب إلى الناس برواياته التي كتبها بلهجة بكين، والكاتب تشو زوه ران الملقب بأبي النثر الصيني الحديث وأول من أدخل مفهوم الآداب الجميلة إلى الصين وهو أيضاً شاعر ومترجم، والكاتب تشن تسونغون أصدر 80 كتاباً وأشهر رواياته المدينة الحدودية، والكاتبة تشانغ آيلينغ التي أحبت الحياة لكنها كتبتها بلون الحزن، والكاتب تشان تشونغشو تميزت أعماله بالامتزاج بين الكتابة والبحث وأطلق عليه “الحكمة البشرية في القرن العشرين”، واشتهرت روايته الطويلة “المدينة المحاصرة”، والكاتب باغين أكثر أحد الكتاب تأثيراً في الصين وهو أيضاً مترجم وناشر، وتعتبر ثلاثيته الروائية “التيار الهادر” من أفضل الأعمال الصينية المعاصرة، وتتألف من “العائلة، الربيع، الخريف”، والكاتب تشانغ هنغتشوي ويسمى كبير الأدباء الشعبيين وأصدر 110 روايات.

ومن كتاب المهجر، نذكر الكاتب “غاو كسينجينان” مؤلف “أنجيل شخص واحد” الحائز على جائزة نوبل عام 2000، والكاتب “مو يان” مؤلف الضفدع والذرة الحمراء” التي نال عنها جائزة نوبل عام 2012.

تصوير الأعماق

يذكر المؤرخون والكتاب والباحثون أن فن التصوير متأصل ويمتد قروناً لما قبل الميلاد، وأنه بدأ كفرع من فروع الكتابة والخط الجميل، ثم تفرع إلى 13 فرعاً في العهد الأخير من أسرة سونغ؛ وأن الصينيين اعتمدوا، وعبر العهود، في رسمهم على الجدران وتسمى “المظلمات”، وعلى الورق والحرير، وصورهم المرسومة كانت رقيقة، عمادها الفرشاة والحبر، لذلك، ونتيجة طبيعتها الشفافة لم تقاوم الزمان ولا الحروب، رغم اشتهار الصينيين بالعناية بصورهم وخصوصاً الملونة التي كانوا يطوونها ويخبئونها، وإذا أرادوا رؤيتها يخرجونها ويتأملونها ويعيدونها، تماماً كما يفعل القارئ بكتاب هام، أو مخطوط نادر، ولا يعلقون على الجدران سوى الصور الصغيرة.

ولم يظهر فن التصوير بالألوان إلاّ مع مؤسسته الأولى الفنانة “لي” أخت الإمبراطور شوين، ليزدهر في زمن أباطرة عصر تانغ، فكثر المصورون الرسامون عبر تأريخ الصين، وأحصى أهمهم الكاتب جانج ين يوان في كتابه “عظماء المصورين عبر العصور”، واصفاً أعمال 379 فناناً، كانت تقدر بقيمة مادية كبيرة، ملفتاً إلى أهمية الصورة الجميلة كقيمة فنية أعظم من الذهب واليشب.

ومن ضمن تطورات الفن أن تصبح له في العصر الإمبراطوري المتأخر مدرستان شمالية ومؤسسها الفيلسوف كَوشي وهي ما يصطلح عليها ” العقلية الاتباعية”، وجنوبية ومؤسسها الشاعر والفنان المصور وانغ يانغ منغ الأقرب إلى “العقلية الابتداعية”، إلاّ أن الفنان وو دَوـ دزه أسس طريقته من جماليات المدرستين مضيفاً أسلوبه وتأثيراته وأفكاره المجردة ليرسم الطبيعة والأشخاص والمباني، واشتهر برسمه ل 300 مظلم لجدران الهياكل البوذية ومنها لوحته الجدارية “ألف شخص”، باحثاً في أعماله عن أسرار الموت والحياة، ولدقته وبراعته تداول الناس عنه قصصاً وخرافات، إحداها تقول: عندما طال أجله دخل في كهف مصور في إحدى لوحاته الطبيعية ولم يره أحد بعد ذلك.

بينما بلغ عدد الفنانين المشهورين في عصر الإمبراطور هواي دزونج 800 وكان الإمبراطور دزونج منهم، وله ملف ضمن الكنوز المحفوظة في متحف الآثار الجميلة ـ بوسطن، كما أنه أنشأ متحفاً للفن في الصين جمع فيه روائع الأعمال الفنية الصينية، وجعل المجمع الفني مستقلاً لا تابعاً للكلية الأدبية، واعتمد النجاح في الاختبار الفني شرطاً أساسياً لطلاب المناصب السياسية، ورفع رجالاً إلى مناصب الوزراء لبراعتهم الفنية، مما جعل التتار يغزون الصين وينهبون شانج عام 756م، ويأسرون الإمبراطور الفنان حتى موته، بعدما دمروا كل شيء حتى الصور المحفوظة في المتحف والتي ملأت سجلاتها 20 مجلداً، ومنها أعمال أهم الفنانين من غير الأسرة الحاكمة أمثال جووشي، لي لونغ ـ مين.

الفراغ هو اللون

كيف يكون اللون هو الفراغ؟

تجيبنا الفلسفة الصينية بحكمة شعرية مذهلة “اللون هو الفراغ، الفراغ هو اللون”، كناية عن تجليات اللون، واللون هو الكلمة أيضاً بمجازية ما، مما يجعل أي دلالة هي لون له عالمه الظاهري بينما الفراغ وألوانه الناتجة عن تدرجات لونية أو دلالية أو إيقاعية هي الشبكة الكاشفة عن أسرار الاكتناه بمفهوم ما، وهي المركز السري للتشابه الروحي لا الشكلي والمادي.

وما بين الحيز والفراغ والكتلة تبدو الفنون الإبداعية معبراً حقيقياً بين الكونين الأصغر ـ الإنسان، والأكبر ـ الكون الهائل، وهذا ما يوضحه المؤلف فرانسوا شينغ: “عندما تعمل القوة الإلهية تبلغ الريشة ـ الحبر ـ الفراغ، هناك ريشة ما وراء الريشة، وحبر ما وراء الحبر، وما على المرء سوى أن يتصرف حسب إيقاع قلبه”.

وهكذا يعتبر الصينيون الآداب والفنون موضوعاً صوفياً حقيقياً تبعاً لما يؤكده شينغ، فيغامرون ليتعرّفوا إلى أنفسهم والعالم والكون، وهي حال المبدعين أينما كانوا، ومن أي شعب كانوا، إلاّ أن الصينيين يختلفون لأنهم يصنفون الإنسان بمكونات الطبيعة، وذلك تبعاً لتعابيره ذاتها وهي تنبع من داخله لتتحول إلى قصيدة أو قصة أو لوحة أو معزوفة أو مسرحية أو أي عمل آخر، فإمّا أن يكون الإنسان بفلسفتهم الرمزية جبالاً، أو بحاراً، أو طيوراً، أو أنهاراً، أو نجوماً، أو أزهاراً، أو غيوماً، أو رعداً، أو أمطاراً، أو عاصفة.

ولعل من أجمل ما قيل في هذا المجال هو اعترافات فنية لمبدع صيني يحكي عن حالته التي يصل إليها وهو يرسم: “أضحك لك والريشة بيدي، فجأة، أبدأ الرقص، وأطلق صرخات غريبة، تسمعها السماء فتنفتح شاسعة، وفي كبد قبتها يتلألأ القمر براقاً بعيداً صغيراً، أنا أتكلم بيدي، وأنت تصغي بعينيك”.

ويتابع: “عندما كنت أرسم هذه اللوحة أصبحت كنهر ربيعي، كلما رسمتها تفتحت أزهار النهر انسجاماً مع يدي، وتماوجت مياه النهر مع إيقاع كياني، في الجناح الأعلى المشرف على النهر كانت اللوحة بيدي وأنا أصرخ “تزوـ مي”، وعند سماع صرخاتي الممتزجة بضحكاتي اجتمعت الأمواج والغيوم فجأة”.