المقاومة تغير ملامح الصراع في منطقة الشرق الأوسط
بشار محي الدين المحمد
إن المتابع لملامح الصراع في منطقة الشرق الأوسط يلاحظ بشكل لا لبس فيه تغيراً مستمراً في ملامح هذا الصراع، في كل حقبة زمنية عبر العقود. ففي نصر تشرين الذي حققه الجيش العربي السوري، لاحظنا مشاركات عربية فعلية ورمزية، ومواقف موحدة تشدّ أزر الجبهات العربية ضدّ العدو الصهيوني ومن يقف خلفه من محاور التآمر على الأمة العربية، حيث ذاق الكيان الإسرائيلي بقوة مرارة الهزيمة وتحطيم العتاد ومقتل الجنود بالآلاف، بعد أن ظنّ نفسه “سيداً على أرض وأجواء الشرق الأوسط”، كما ذاقت أوروبا المعنى الحقيقي لأهمية سلاح النفط والطاقة للمرة الأولى، وأدركت بأن “تفوقها” لن يكون له معنىً إن تم قطع إمداد هذا النفط، وأسقط فجر تشرين العربي الأساطير الإسرائيلية وقصر الرمال الذي بناه العدو بعد حزيران 1967. أساطير “الجيش الذي لا يقهر، الأمن الحديدي، وعدم ترك جثة واحدة في أرض المعركة”.
وبعد هذا النصر الساحق بدأت “إسرائيل” وغيرها من متضرّري الغرب بالانتقال إلى أدوات أخرى لخوض الحروب عنها بالوكالة وبأقل التكاليف، فكانت رعاية “الإسلام السياسي” وتدجين الوعي العربي لتقبل فكرة الوجود الصهيوني في المنطقة عبر حرق المجتمع العربي على أيدي بعض فئاته الرجعية ودعم الفكر الظلامي المتشدّد، بالتزامن مع اتباع سياسات الحصار والتجويع، والاستفادة من عدة حروب وغارات أمريكية في المنطقة سهلت هذا التغلغل المشبوه ومساعيه الحثيثة لحرف البوصلة العربية.
لكن بالمقابل فإن الوعي الشعبي العربي لم يقف مكتوف الأيدي، بل قال كلمته المستقلة فكانت الانتفاضة الأولى وتنظيمات المقاومة المسلحة في فلسطين، كما نمت تجربة حزب الله في لبنان، وأصبحنا أمام مرحلة جديدة من النضال ترفد حروب الجيوش الوطنية متمثلة بحروب وعمليات التنظيمات والفصائل، وصولاً إلى حرب تموز التي شكلت تجديداً لفجر تشرين وانتصاراته الساحقة، وأعادت الأمل للأجيال العربية بتحرير القدس وكل المقدسات.
لكن بالمقابل فقد حفّز هذا النصر، قوى العدوان على تقوية أدواتها الإرهابية لتأخذ بثأرها المتراكم منذ انتصارات تشرين، وأوجدت تلك القوى ما يُسمّى “الربيع العربي” الذي تم قهره على أسوار دمشق الشامخة عبر تلاحم الجيش العربي السوري الباسل، مع الشعب، ومع قوى المقاومة الوطنية في سورية ولبنان وفلسطين، ومع القوى الصديقة في إيران وروسيا، حيث تم إفشال مشروع إسقاط الدولة الوطنية أو دولة المؤسسات أو الدولة الوطنية في سورية، ليأخذ هذا الإنجاز أبعاداً مرعبة للمحور الصهيو-أمريكي، إذ شكلت تلك اللحظة بدء مشروع قهر القطبية الإمبريالية الأمريكية، ونما منذ ذلك الحين موقف يمكنه قول “لا” لقوى الغرب وتحدي عقوباتها الأحادية و”نظام القواعد” البالي، وكل هذا نبّه قوى التحرر إلى أهمية مسألة الحفاظ على الجيوش الوطنية ورفدها بقوى المقاومة الشعبية لكسر كل مؤامرات وتحديات قوى الاستعمار سواء العسكرية المباشرة، أو عبر قطعان إرهابه غير المباشرة التي تسربت بعد هزيمتها نحو إفريقيا وأوكرانيا ومناطق عدّة في انتظار توظيفها في أرض خصبة لاستثمارات الغرب المشبوهة، إذ نقلت تلك القطعان كما نقلت نشاطات المختبرات البيولوجية الأمريكية التي تنشر الأمراض والأوبئة في العالم لتدمير هنائه وضرب منظومته الصحية، نحو القارة السمراء، وهنا نلاحظ وجه الشبه بين السلاح البيولوجي والسلاح الإرهابي وكأن كليهما وباء قاتل. لكن تلك المشاريع بدأت تفشل من خلال وجود المؤسسة العسكرية في القارة السمراء ووجود الوعي الشعبي المتأهب ضد الغرب بعد أن تعلم التجربة جيداً وقرر توظيفها، حيث بدأ يسقط مع الجيش كل أركان التآمر على شعوب تلك القارة لقهر المشروع الغربي فيها.
واليوم نلحظ عدة نقاط جوهرية يأتي في مقدمتها الوصول إلى نتيجة مفادها أن لا رخاء ولا استقرار ولا مشروعات اقتصادية في الشرق الأوسط، إلا عبر المرور ضمن البوابة السورية وإعادة الدور الدبلوماسي الأساسي إلى سورية، وهذا ما دللت عليه الانتصارات الدبلوماسية المتلاحقة، وما كللت به من توقيع للشراكة الإستراتيجية مع الصين التي كانت ضربة لمشروع الممر الأمريكي عبر كيان الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.
أما النقطة التالية فتمثلت في إصرار المحور الصهيو أمريكي على توجيه الضربات لمؤسسة الجيش بكل الوسائل، بل استهداف حاضنته الشعبية، فرأينا الاعتداء الإرهابي الجبان على حفل تخريج ضباط الكلية الحربية في حمص، والمتزامن مع ذكرى حرب تشرين ونصرها المؤزر. لكن الرسالة هذه لم تفهم كما أراد ذلك المحور، بل على العكس ما زالت تترجم من الشعب السوري وكل قوى التحرر على أنها حافز لبذل المزيد من التضحية للحفاظ على الكرامة واستقلال القرار مهما زادت محاولات العبث ونشر التكفير والإرهاب على أسوار دمشق وطهران وموسكو والنيجر.
أما النقطة الثالثة فتتمثل في الردّ الذي لم يتأخر، ففي اليوم التالي لحادثة الكلية، قالت المقاومة الوطنية الفلسطينية كلمتها: “من غزة هنا الكلية الحربية.. إن المقاومة في غزة جزء من محور المقاومة والممانعة.. الكيان الصهيوني هو اليوم فعلاً كيان مؤقت”، وهذا ما يؤكد أيضاً أقوال السيد حسن نصر الله في أن هذا الكيان فقد الكثير من شروط وظيفته الإقليمية في الأجندة الإمبريالية، ولم يبقَ منه إلا مساحة مؤقتة أيضاً تحت عنوان الإبراهيمية السياسية واتفاقياتها، ولاسيما أن الوجود الإمبريالي برمته في الشرق الأوسط، يعيش حالة تصدّع واضطراب ناجمة عن تخبط خياراته الأخرى وسط عالم جديد بين أوراسيا وبحر الصين، وخساراته المتتالية في أميركا اللاتينية وإفريقيا.
ولقد فجع هذا الكيان وأجهزة استخباراته و”جيشه” بجثث الجنود والمستوطنين تملأ المكان، وأسراه بالعشرات في قبضة المقاومين، وانطلاق موجات الهجرة المضادة خارج هذا الكيان والخسائر الاقتصادية الفادحة، وبعد نصف قرن من اختراق خطّ بارليف، نشهد معجزة أخرى في اختراق العدوّ في مستوطناته من مقاومة محاصرة لسنوات براً وبحراً وجواً.
أما النقطة الأهم فهي أن تشرين غزة قد أعاد بناء الثقة الشعبية العربية بشكل جديد، بالتحرير والنصر ووقف قطار التطبيع. وبرهن “طوفان الأقصى” مجدداً على أن تلاحم الشعب مع المؤسسة العسكرية الوطنية أو مع قوى المقاومة الوطنية سيعزّز معادلة وحدة الساحات.. وحدة تكون أداة ساحقة لـ”وحدة المشروع التآمري، الفوضى الخلاقة، الرمال السيليكونية، “داعش، التركستان، قسد..”، فقد أصبحت ساحات المقاومة مفتوحة على بعضها البعض، لا يمكن تأطيرها ضمن الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار.
وفي خضم ذلك كله نعلم بأن حروب “اللا غالب واللا مغلوب” الأمريكية وسياسات الاستعمار والهيمنة الأنغلوسكسونية لن تعيش في هذه المنطقة، كما أنها لن تساعد في إحياء تموّت “التفوق الغربي”، والقطبية الأمريكية التي انتهكت من سورية خلال الحرب الظالمة عليها مروراً بأوكرانيا وليس أخيراً في النيجر، على يد المعادلة ذاتها: شعب يتلاحم مع جيوش وطنية ومقاومة شعبية واعية لينتج المزيد من وحدة ساحات، وحدة ساحات ستكون أكبرها ساحة عالم الجنوب والتعدّد في وجه أمريكا والغرب اللا أخلاقي الناهب للشعوب.