“النكبة” معكوسة
أحمد حسن
يمكن قول الكثير عن المواقف المخزية، والكاشفة، للدول الغربية وقادتها ونُخبها السياسية والفكرية مما يحدث من جرائم إبادة جماعية في غزة.
يمكن مثلاً الإشارة إلى موقف ليندسي غراهام، السيناتور الجمهوري، الذي طالب الإسرائيليين بتسوية غزة بالتراب، أو وزيرة الداخلية البريطانية التي اعتبرت أن مجرد حمل العلم الفلسطيني قد يكون تهمة وإرهاباً، وحتى زعيم حزب العمال المعارض الذي لم يكتفِ بشجب ما حصل بل اعتبر منع الطعام والشراب عن غزة ضرورياً في الحرب ضد الفلسطينيين الذين عدّهم أحد “الباحثين” الإسرائيليين “حيوانات الغابة”، بينما لم يكن “الإعلام الحرّ” أقل مساهمة من هؤلاء في تعبيد طريق الجريمة.
وعلى غرار كل حالة سابقة فإن هذا السعار النازي القاتل، ضدّ شعب أعزل وصاحب قضية محقّة وفق كل الشرائع السماوية والأرضية لا يصبّ، في محصلته النهائية، إلا في مكان واحد ولا يعبّر إلا عن شيء واحد. المكان هو واشنطن، والتعبير هو “النكبة”، والحق أن ما حصل يوم السابع من تشرين الأول 2023 كان “نكبة” لها، أي لواشنطن – كممثل أوحد وأكبر لكامل الغرب – أولاً وقبل أي أحد آخر.
من هنا نفهم لماذا سارع وزير الخارجية الأمريكية ومنذ اللحظة الأولى لإبراز انتماء ديني محدّد وإعلاء شأنه في سياق الدفاع عن إسرائيل متجاوزاً كل تاريخ “غربه” في محاولاته لإقناع بقية العالم بتجاوز ذلك – غراهام ذاته قال في تصريح لـ “فوكس نيوز” إن هذه هي حرب دينية – ومن هنا نفهم أيضاً كيف سارعت إدارة بلاده لقيادة المعركة فعلياً، فالتهديدات لمحور المقاومة من مغبّة التدخل تصدر من البيت الأبيض، وجنرالات الجيش الأمريكي استلموا شخصياً مواقع القيادة على الأرض، وحاملات الطائرات، بتعبيرها عن القوة الكاسحة، تمخر عباب “المتوسط”.
بيد أن المسألة الحقيقية هنا تماماً، فهذا “الإعلان” الأمريكي عن حضور هذه القوة الكاسحة، وعلى خطورته البالغة، هو تحديداً ما يكشف الفرق الذي أحدثته “النكبة” المعكوسة، لأنه لا يبدو، في جوهره، إلّا كتعويض نفسيّ وإعلامي / إعلاني عن ضعف حقيقي في الخيارات، وتراجع هائل في ترسانة وسائل الردع المعتادة، كاشفاً بذلك عن الانحدار الهائل في القوة الإسرائيلية والأمريكية، كما عن زعزعة مخططاتهما السابقة للمنطقة في الآن ذاته، فواشنطن مثلاً كانت قد انتهت تقريباً، أو هكذا خُيّل لها، من ترتيب تحالف عربي – إسرائيلي مهمّته الأولى ضبط مؤشرات المنطقة وقواها على بوصلتها الأمر الذي سيتيح لها، أي لواشنطن، توجيه قوّتها الرئيسية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقيام نتنياهو، قبل عشرة أيام من العملية برفع خريطة اعتبرت فلسطين كلها إسرائيل التي عقدت اتفاقيات تطبيع مع دول عربية، كان إعلاناً رسمياً بنجاح ذلك الترتيب.
ثم.. جاء يوم التاسع من تشرين الأول ليكشف عن هشاشة أعمدة هذا البناء، وهنا تحديداً تتضح، مرة أخرى، القيمة الحقيقية لمنطقتنا في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية والغربية، لأنه بمجرّد أن تخلخلت جدران “القاعدة” الغربية المتقدمة جاء “الأصيل” بنفسه لخوض غمار المعركة كاشفاً في ذلك عن حقيقتين متلازمتين، أولهما الضعف المميت لـ “الوكيل”، والثاني القوة الكبيرة البازغة لأبناء المنطقة، وهو ما يؤكده الميدان قبل أي شيء آخر، سواء ميدان العمليات الفعلي على الأرض، أم الميادين التي يحتلها الشباب العربي هذه الأيام نصرة لفلسطين.
خلاصة القول، هذه أيام كاشفة. أيام امتحان للرجال وللعزائم وللإرادات وللتوازنات الدولية الحقيقية، وإذا كانت “النكبة” الأولى قد حصلت في ظل صعود غربي لا يمكن الوقوف في وجهه إلى صدارة العالم وكانت “إقامة” إسرائيل دليله المعلن وخنجره المغروس في صدورنا، فإن “النكبة معكوسة” دليل معلن آخر على تسارع إجراءات هبوطه، ونزع “الخنجر الغربي” من صدورنا سيكون مشهده الختامي مهما طال الزمن.