“المعمداني” تعيد الغرب إلى قواعده العنصرية الاستعمارية
هيفاء علي
في تصعيد خطير ووحشي، أغارت طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي على مشفى “المعمداني” في وسط مدينة غزة، بعدد من الصواريخ مخلفة أكثر من 1000 شهيد وعشرات الجرحى في مجزرة جديدة يندى لها جبين البشرية، وتضاف إلى سلسلة المجازر الشنيعة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني على مدى 75 عاماً، علماً أن هذا المشفى كان يأوي العديد من المواطنين النازحين عن بيوتهم بحثاً عن الأمان. وبالتزامن مع استهداف المشفى العربي الأهلي “المعمداني”، نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية عدة غارات على حي الشيخ رضوان قرب مفترق بهلول، مخلفة أيضاً عشرات القتلى والجرحى.
وبالطبع عمل الغرب الداعم الأكبر للكيان الإسرائيلي على محاولة تبرئة الكيان من المسؤولية عن هذه المجزرة، حيث أصبح واضحاً اليوم في الغرب أن انتماء المرء السياسي لا يشكل فارقاً كبيراً عندما يتعلق الأمر بفلسطين والنضال الفلسطيني، فالقادة والسياسيون والنقاد والشخصيات الإعلامية بجميع أطيافهم السياسية، بما في ذلك اليمين والمحافظون والليبراليون والوسط واليسار، جميعهم يدعمون نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي.
لقد عادت المؤسسة الغربية ووسائل إعلامها اليوم إلى قواعدها العنصرية الاستعمارية التي دعمت الغزو والاستيطان وارتكاب إبادة جماعية في الأمريكتين وفي كل مكان في العالم منذ عام 1492. وقد وظفت أشكالاً مزعجةً من اللهجة العنصرية غير الإنسانية لتشويه سمعة الفلسطينيين ونزع الشرعية عن نضالهم، حيث وصفوهم بالوحوش والحيوانات والهمجيين والإرهابيين والأشرار الذين يرتكبون “هولوكوست” أخرى، و11 أيلول أخرى.
أدان الكثيرون النفاق والتحيّز وازدواجية المعايير في وسائل الإعلام والخطاب السياسي الغربي، ومن اللافت للنظر أن القادة نفسهم ووسائل الإعلام الغربية نفسها التي اتهمت روسيا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، امتنعت عن القيام بالمثل بشكل ممنهج عندما تعلق الأمر بالكيان المحتل!.
لقد تجاهلوا جرائم “إسرائيل” ضد الفلسطينيين منذ عام 1948 بما في ذلك جرائم الفصل العنصري المستمرة والتطهير العرقي للفلسطينيين، التي تسبّبت في أن يصبح 80% من الشعب الفلسطيني لاجئاً أو نازحاً داخلياً.
وبعد عقود من العقاب الجماعي الإسرائيلي للفلسطينيين مثل قصف البنية التحتية المدنية والمنازل والمستشفيات ودور العبادة والمدارس والجامعات، بالإضافة إلى اختطاف الأطفال وحرقهم حتى الموت وقطع إمدادات الكهرباء والماء وغيرهم من الجرائم، لم يثر ذلك غضب الغرب أو مخاوفه.
الأمر الأكثر إزعاجاً، أن السياسيين نفسهم والشخصيات الإعلامية نفسها التي وافقت على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عارضت بشدة تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم “إسرائيل” لمنع ولو القليل من العدل عن الضحايا الفلسطينيين.
للمفارقة، فإن الخطاب الغربي الإعلامي والرسمي وأفعاله تتوافق بشكل كامل مع المعايير الاستعمارية الأوروبية الحديثة التي قرّرت بالفعل أن الأوروبيين وحدهم بشر كاملون، لذا فالحرية والهيمنة على الآخرين حق مطلق لهم.
إن نزع الإنسانية عن الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب المقهورة الخاضعة للعنصرية حول العالم، يمثل استمراراً للمعايير والأعراف الاستعمارية الأوروبية الراسخة، واتهام وسائل الإعلام والحكومات الغربية بالنفاق يحمل في طياته أملاً بالخلاص، لكن هذا الأمل بعيد المنال.
ورغم مرور قرن من النضال لأجل الحرية، ما زال العالم الغربي غير مبالٍ بمعاناة الفلسطينيين من الاستعمار الصهيوني المدعوم أوروبياً وأمريكياً، بدلاً من ذلك يطالبهم القادة الغربيون بإدانة أنفسهم وسعيهم نحو التحرر.
لم تتجاهل وسائل الإعلام والجهات الرسمية الغربية المعاناة الفلسطينية فقط، بل وتتظاهر بأن الصراع بدأ الأسبوع الماضي فقط، بل إنها قبل 4 عقود، أنكرت عليهم حقهم في سرد قصتهم ونشرها.
وقد واصلت تصوير الفلسطينيين بأنهم “إرهابيون ومجرمون” وصُوّرت معاناتهم تحت نظام الفصل العنصري على الهواء مباشرة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ووثقتها تحقيقات وتقارير وإحصاءات وصور ولجان وقرارات الأمم المتحدة، إضافة إلى أبحاث علمية أجراها مؤرخون محترمون.
وهكذا، صُمّم الخطاب الرسمي الغربي لتوجيه الرأي العام لمصلحة العقاب الجماعي وقتل الفلسطينيين، ليس فقط على يد المستعمرين الإسرائيليين، بل أيضاً على يد الأمريكان والألمان والإنكليز وغيرهم من القوى الاستعمارية التي أرسلت سريعاً طائراتها الحربية وأسلحتها لتأديب وعقاب الضحايا في غزة.
إن جريمة الفلسطينيين تكمن في استمرارهم في الظهور ورفضهم الموت بصمت، وأخيراً اختراق السياج المحاصر لغزة، وسواء اتخذ هذا النضال شكلاً عنيفاً أم غير عنيف –وكلاهما شرعيان وفق القانون الدولي– فإنهم يُوصمون بالعنف لتحديهم إطار العدالة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية الأوروبية وأسسها العنيفة الظالمة غير الأخلاقية.
من ذلك المنظور الاستعماري، فإن مجرد وجود الفلسطينيين يعدّ شكلاً من أشكال العنف والإثم، لقد حظر الغرب بالفعل وجرّم أي أعمال سلمية مثل الاحتجاج على إجرام نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، ومقاطعته ومعارضة التطهير العرقي والعقاب الجماعي وانتهاك الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة، وتحويل غزة إلى سجن كبير مفتوح لأكثر من مليوني مواطن، والتحكم في غذائهم والسعرات الحرارية التي يحصلون عليها.
هذا الانهيار العقلي للمؤسسة الغربية وصل إلى حدّ اعتبار رفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية الفلسطينية عملاً عنيفاً، وكأي شعب مُستعمَر ومُستعبَد، فإن الفلسطينيين يقاتلون من أجل مستقبل يضمن لهم حريتهم في دولتهم المستقلة ويخلصهم من القمع الاستعماري والاضطهاد.