شرخ موجع في روح الإنسانية.. كم عدد الأطفال الذين يجب أن يموتوا حتى تتوقف آلة الإجرام الصهيونية؟
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
هناك شرخ خطير في نسيج الإنسانية، وفي الأخلاق الأساسية للعالم والذي يتم من خلاله تقديم مبررات مزعومة لتبرير قتل الأطفال والنساء والمسنين والمرضى والرجال العزل في قطاع غزة المحاصر، والذين لم يشاركوا في أي نوع من الصراع العسكري على الإطلاق.
جدعون ليفي “تاريخ موجز لقتل الأطفال”
مر ما يقرب من عامين منذ أن كتب الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي مقالًا لصحيفة “هآرتس”، بعنوان “تاريخ موجز لقتل الأطفال”، حيث تحدث فيه عن التدهور الأخلاقي لحكومة الكيان الإسرائيلي منذ التسعينيات وحتى وقتنا الحالي من خلال طرق معاملة الأطفال الفلسطينيين.
كتب ليفي: “في البداية شعرنا بالخجل، ثم صدمنا، وقمنا بالتحقيق”. “ثم أنكرنا ذلك وكذبنا. بعد ذلك تجاهلناه وقمعناه، وفقدنا الاهتمام. الآن هي أسوأ مرحلة على الإطلاق: لقد بدأنا في تمجيد قتلة الأطفال. هذا هو المدى الذي ذهبنا إليه”.
يتذكر ليفي الصدمة التي شعر بها في عام 1996، عندما توفي طفل حديث الولادة، أنجبته والدته فايزة أبو دهوك عند نقطة تفتيش إسرائيلية، بعد أن أبعدها الجنود الإسرائيليون عن ثلاث نقاط تفتيش. وعندما وصلت إلى المستشفى أخيراً، بعد أن حملته “طوال ليلة باردة وممطرة”، كان “ميتاً بالفعل”. في ذلك الوقت، أشار ليفي إلى أنه تم طرح الأمر في اجتماع لمجلس الوزراء، نتج عنه فصل ضابط وتبع ذلك عاصفة صغيرة، وكان ذلك في نيسان 1996، في عام “الأمل والأوهام”.
ولكن بحلول عام 2000، وقت الانتفاضة الثانية، كان استشهاد محمد الدرة البالغ من العمر 12 عاماً، والذي أطلقت عليه “قوات الاحتلال الإسرائيلي” النار عندما كان يبحث عن ملجأ مع والده خلف برميل إسمنتي، بمثابة بداية لما وصفه ليفي باعتبارها “مرحلة الإنكار والأكاذيب” في “إسرائيل”. وعلى الرغم من أن قوات جيش الكيان الإسرائيلي قبلت في البداية مسؤوليتها عن عملية القتل، إلا أنها تراجعت بعد ذلك عن اعترافها، مدعية أن “الحادثة بأكملها كانت مفبركة وأن محمد الدرة لم يُقتل على الإطلاق، أو قُتل بدم بارد على يد الفلسطينيين ،لتشويه سمعة” أو “نزع الشرعية عن إسرائيل”، كما وصفها الصحفي خالد دياب في عام 2013.
وبعد ذلك، وصف ليفي الحادثة بقوله، بدأت “20 عاماً من اللامبالاة والرضا عن الذات”، ونتيجة لذلك، كما أوضح، قتل الجنود والطيارون 2171 طفلاً ومراهقاً، ولم تصدم أي من هذه الحالات أحداً في “إسرائيل”، أو لم تتم إثارة أي تحقيق حقيقي ولم تؤدي إلى محاكمة. لقد قتل أكثر من 2000 طفل خلال 20 عاماً. وأضاف أنه تمت إدانتهم جميعاً وذلك بسبب الرأي السائد في “إسرائيل” بأنهم “كانوا إرهابيين ولم يكن أمام الجنود أو الشرطة خيار سوى إعدامهم”.
كان مقال ليفي لعام 2021 مدفوعاً بما وصفه بأنه “المرحلة التالية” في عملية التجريد من الإنسانية، حيث تثني “إسرائيل” على قتلة الأطفال. وأضاف: “لم يحدث هذا من قبل… لقد كانوا أطفالاً فلسطينيين”.
والمثال المحدد الذي ركز عليه ليفي هو مثال عمر أبو صعب البالغ من العمر 16 عاماً، والذي أظهره مقطع فيديو نشرته الشرطة وهو يقترب من ضابطين من الخلف والاعتداء عليهما بسكين كان يحملها . لقد كان عمر أصغر حجماً وأنحف منهما، وكان بإمكانهما إيقافه، ولم يكن عليهما إطلاق النار عليه وقتله، مثلما قتلوا بلا داع أطفالاً بالسكاكين قبله وبعده.
ولكن بدلاً من إدانة أو حتى انتقاد عملية القتل، احتفت الصحافة بشرطي حرس الحدود الذي أطلق النار على عمر أبو صعب حتى الموت من مسافة قريبة، ووصف الضابط “بالبطل” الذي منع وقوع كارثة كبرى، دون الإشارة إلى عمر عمر أبو صعب. وكما خلص ليفي إلى أن “تحويل إطلاق النار على شاب يبلغ من العمر 16 عاماً بسكين إلى قصة كبيرة هو تجاوز لخط أحمر أخلاقي، وسوف يشجع على قتل المزيد من الأطفال بلا داع.
وفيات الأطفال وسط انتهاكات متزايدة للقانون الإنساني الدولي
إن تحليل جدعون ليفي لتزايد تجريد “إسرائيل” من الإنسانية تجاه الأطفال الفلسطينيين له أهمية كبيرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه يسلط الضوء على رفض “إسرائيل” قبول ذلك، كما هو منصوص عليه في المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، التي تم الاتفاق عليها في عام 1989، وصدقت عليها الأمم المتحدة، وحكومة الكيان الإسرائيلي في عام 1991. يجب على الدول الأطراف أن تعترف بأن لكل طفل حق في الحياة، وتضمن إلى أقصى حد ممكن بقاء الطفل ونموه، وأيضاً لأنه، في حالة عمر أبو صعب، وغيرهم من الأطفال الذين يعدمهم الجنود الإسرائيليون بإجراءات موجزة، فهو ينتهك بشكل صارخ البروتوكول الاختياري بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار 2000، والذي صادقت عليه ” إسرائيل” أيضاً، والذي تنص المادة 6.3 منه على أن يدعو الدول الأطراف إلى توفير المساعدة المناسبة للأطفال خلال النزاعات المسلحة لتعافيهم الجسدي والنفسي وإعادة إدماجهم اجتماعياً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تقييم ليفي يدين “إسرائيل” أيضاً لازدرائها المتزايد ليس فقط لحقوق الأطفال، ولكن أيضاً لجهاز القانون الإنساني الدولي برمته، والذي، كما توضح اللجنة الدولية للصليب الأحمر، “يحمي أولئك الذين لا يشاركون في القتال، مثل المدنيين والطاقم العسكري الطبي، الذين يحق لهم احترام حياتهم وسلامتهم الجسدية والعقلية، والذين يتمتعون أيضاً بالضمانات القانونية، والذين يجب حمايتهم ومعاملتهم بطريقة إنسانية في جميع الظروف، دون أي تمييز ضار.
وهذا أمر مهم للغاية، بالطبع، لأن 2171 طفلاً ومراهقاً قامت “إسرائيل” بقتلهم في الفترة من 2000 إلى 2021 لم يتم إطلاق النار عليهم جميعاً عند نقاط التفتيش، بل تم قُتل العديد منهم في الغارات الجوية العشوائية على قطاع غزة والتي تحدث بانتظام مثير للقلق منذ أن تم سجن 2.3 مليون نسمة من سكان تلك المنطقة الصغيرة المكتظة بالسكان لأول مرة في عام 2007. وفرضت “إسرائيل” حصاراً برياً وجوياً وبحرياً شديداً وبشكل كامل لدرجة أن ” هيومن رايتس ووتش” وصفت قطاع غزة بأنه “سجن في الهواء الطلق”.
وقعت اعتداءات كبرى على قطاع غزة في الأعوام 2008-2009، وفي 2012، و2014، ومرة أخرى في 2021، حيث قامت منظمة ” بتسيلم”، وهي منظمة غير حكومية مقرها في القدس، تعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها “إسرائيل”، بتجميع تقارير تثبت أنه في الفترة من 29 أيلول 2000 (بداية الانتفاضة الثانية) إلى 26 كانون الأول 2008 ، بداية عملية “الرصاص المصبوب”، والتي تعتبر أول الهجمات الإسرائيلية الكبرى على غزة، قُتل 961 طفلاً فلسطينياً، وقُتل 345 طفلاً، والتي استمرت حتى 18 كانون الثاني 2009، وقُتل 877 طفلًا آخرين في الفترة ما بين 19 كانون الثاني 2009 و18 كانون الثاني 2022.
عدد الشهداء في غزة يخرج عن نطاق السيطرة
شنت “إسرائيل” هجوماً وحشياً لا يضاهى على قطاع غزة رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول خلال عمليات توغلها في الأراضي الإسرائيلية والتي قُتل فيها ما لا يقل عن 1400 إسرائيلي. ووفقاً لأحدث التقارير، فقد استشهد حتى الآن حوالي 3000 شخص في قطاع غزة نتيجة غارات القصف الإسرائيلية خلال أسبوع ونصف الأسبوع . وكان ما لا يقل عن 1000 من الشهداء من الأطفال . علاوة على ذلك، هناك 1200 فلسطيني آخر، من بينهم 500 طفل، ما زالوا مجهولي المصير، والعديد منهم، إن لم يكن معظمهم مدفونون تحت أنقاض المباني المدمرة في غزة. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن أعداداً لا حصر لها من الناس سوف يموتون نتيجة العطش والجوع وفقر الدم، وأوضاعهم الصحية الموجودة مسبقاً إذا رفضت “إسرائيل” رفع الحصار الكامل عن غزة الذي فُرض في 8 تشرين الأول، عندما صرح وزير الدفاع يوآف غالانت، بعبارات صارخة ومثيرة للاشمئزاز: “لن تكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء سيكون مغلقاً. نحن نقاتل حيوانات بشرية وسنتصرف وفقاً لذلك”.
وخلف الأبواب المغلقة، يناقش المسؤولون الإسرائيليون مقترحات أكثر إثارة للقلق، وعلى وجه التحديد، الإبادة الجماعية، وفي هذا السياق، تحدث الصحفي الأمريكي سيمور هيرش إلى جاسوس إسرائيلي أخبره أن الجدل الكبير داخل حكومة الكيان هو ما إذا كان يجب تجويع فصائل المقاومة الفلسطينية أو قتل ما يصل إلى 100 ألف مدني.
تواطؤ القادة الغربيين
إنه لأمر مخز دعم الغرب الكبير وغير المنتقد للجرائم التي ترتكبها قوات الكيان المحتل في غزة، حيث استجاب القادة الغربيون في البداية على الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على غزة، والذي أسقطت فيه 6000 قنبلة، أي ما يقرب من عدد القنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة أفغانستان طوال عام كامل، من خلال تأييد “إسرائيل” غير المشروط “بالحق” في الدفاع عن نفسها.
وما زال الغرب المتواطئ في جرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل” يدافع إلى الآن عن قوات كيان الاحتلال التي لم تتوقف عن انتهاك القانون الإنساني الدولي والاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب، وبالإضافة إلى فرض أشد العقوبات الجماعية عنفاً وقسوة على شعب غزة، من خلال غاراتها العشوائية المتواصلة، وحجب المياه والغذاء والإمدادات الطبية، وكلها جرائم حرب مروعة للغاية، كما أضافت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً التطهير العرقي إلى قائمة انتهاكاتها المتزايدة، من خلال أمر الإخلاء لنصف السكان للانتقال إلى جنوب قطاع غزة، بهدف واضح هو إقناع مصر بفتح معبر رفح ليتم نفيهم إلى صحراء سيناء وعدم عودتهم.
وكما قال جان إيغلاند، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، لوكالة” أسوشيتد برس”، فإن هذه ليست فرصة للإخلاء، بل أمر بإعادة التوطين. ويسمى هذا النقل بموجب القانون الإنساني، نقلاً قسرياً للسكان، وهو جريمة حرب. ومن الواضح أن المطلوب الآن ليس أقل من وقف فوري لإطلاق النار يعقبه توفير الإغاثة الإنسانية العاجلة والإمدادات إلى قطاع غزة. وأي شيء أقل من ذلك يعني أن أولئك الذين يشغلون مناصب السلطة في مختلف أنحاء العالم ما زالوا متواطئين في جرائم الحرب، ومع وفاة المزيد من الأطفال الفلسطينيين، فإن أيديهم سوف تتلطخ بدماء هؤلاء الأطفال.