الجيش الروسي يستعد لجني ثمار نجاحاته واستثماراته الإستراتيجية الأمريكية في أوكرانيا تصل برمتها إلى طريق مسدود
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
من وجهة نظر العديد من المحللين الغربيين، فإن الحرب الروسية الأوكرانية تعتبر تجربة تاريخية غير مسبوقة لمجموعة متنوعة من الأسباب، بعيداً عن التعقيدات والجوانب الفنية للمؤسسة العسكرية نفسها. فهذا هو أول صراع عسكري تقليدي يحدث في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والتصوير السينمائي العالمي، أي انتشار الكاميرات في كل مكان.
لقد أصبحت الحرب على الفور مثيرة ومشبعة بمقاطع فيديو مزيفة أو ملفقة ومليئة بالمعلومات التي لا يستطيع معظم الناس ببساطة تحليلها لأسباب واضحة، وبشكل أكثر تجريداً، تحولت الحرب في أوكرانيا إلى منتج ترفيهي أميركي، بأسلحة المشاهير العجيبة مثل الرمح المقدس و صواريخ الهيمارس، وإشارات بشعة إلى الثقافة الشعبية الأميركية، وزيارات من مشاهير أميركيين، وكل هذا يتناسب بشكل طبيعي مع الحس الأميركي، لأن الأميركيين يحبون المستضعفين.
ساحة المعركة للجيش الروسي
رغم كل هذا التهويل، يتخلص الاقتصاد الروسي من العقوبات الغربية، ويظل التماسك السياسي للدولة دون إزعاج على الإطلاق، أما الأمل الثاني فقد تلاشى بمجرد إعلان بوتين عن التعبئة في البلاد في خريف 2022، وبالتالي كل ما تبقى هو ساحة المعركة. ويبدو أن حقيقة أن عام 2023 كان أفضل فرصة لأوكرانيا للهجوم هي نقطة تافهة لأن الوضع لم يتحسن لصالح أوكرانيا، فالأمر لا يقتصر على أن العديد من أعضاء حلف شمال الأطلسي لم يبق لهم أي شيء في الاستقرار فحسب، بل إن تجميع قوة ميكانيكية أكبر سوف يتطلب من الغرب مضاعفة جهوده لتجنب الفشل. ومن ناحية أخرى، تعاني أوكرانيا من نزيف العمالة القادرة على الاستمرار، وذلك بسبب الفساد المستشري الذي يشل فعالية أجهزة التعبئة. هذه العوامل تعطي نتيجة هامة مفادها نقص متزايد في العمالة ونقص يلوح في الأفق في الذخيرة والمعدات، وهذا ما يحدث عندما يضعف الجيش، ومع تراجع القوة القتالية لأوكرانيا، تتزايد القوة القتالية الروسية. كما زاد القطاع الصناعي الروسي إنتاجه بشكل كبير على الرغم من العقوبات الغربية، مما أدى إلى اعتراف غربي متأخر بأن روسيا لن تنفد من الأسلحة، بل إنها كانت تنتج فائضاً مريحاً مقارنة ببقية دول الكتلة الغربية. اذ تعمل الدولة الروسية على زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل جذري، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة القوة القتالية بمرور الوقت. وفي الوقت نفسه، على جبهة القوى البشرية، فإن حشد القوة الروسية مستقر (أي لا يتطلب زيادة التعبئة)، والإدراك المفاجئ أن الجيش الروسي لديه بالفعل احتياطيات وفيرة دفع أعضاء بارزين في التعليق إلى الجدال فيما بينهم على تويتر، أي أن الجيش الروسي مستعد الآن لجني ثمار استثماراته في العام المقبل.
وعليه، فإن القوة القتالية لأوكرانيا تشهد انحداراً ليس من المرجح أن يتوقف، وخاصة الآن بعد أن أصبحت الأحداث في الشرق الأوسط تعني أنها لم تعد تتمتع بمطالبة لا جدال فيها بشأن المخزونات الغربية. ومن غير المرجح أن يستعيد نظام كييف أراضي كبيرة في المستقبل، ولهذا السبب ابتعدت اللغة بوضوح عن الإشارات إلى استعادة الأراضي المفقودة واقتصرت على تجميد بسيط للجبهة.
ولم يعترف أحد غير القائد الأعلى زالوزني بأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، في حين بدأ بعض المسؤولين الغربيين في طرح فكرة التسوية عن طريق التفاوض، ولكن يواصل زيلينسكي معارضته القاطعة للمفاوضات، ومن المرجح أن يشهد العالم خلال الأشهر المقبلة نقاشاً متزايد القوة حول ما إذا كان ينبغي على كييف أن تتفاوض أم لا، ولكن ربما لا يحق لكييف ولا لواشنطن اتخاذ القرار، لأنهما الطرف الأضعف.
الاستنزاف الاستراتيجي
تدخل الحرب في أوكرانيا الآن مرحلتها الثالثة، حيث تميزت المرحلة الأولى، منذ بدء العملية الروسية، بمسار استنفاد القدرات الأوكرانية من خلال عمليات القوة الروسية الأولية المحدودة، في حين تمكنت القوات الروسية من إضعاف أو استنزاف العديد من جوانب آلة الحرب الأوكرانية قبل الحرب، وهي عناصر مثل الاتصالات ومخزونات الدفاع الجوي الاعتراضية وأسطول المدفعية. ومع مواجهة الروس لحرب أكبر بكثير مما كان متوقعاً، وعدم كفاية حشد القوات على الإطلاق للمهمة، اتخذت الحرب طابع الاستنزاف الصناعي مع دخولها مرحلتها الثانية. تتميز هذه المرحلة بالمحاولات الروسية لتقصير وتصحيح خط المواجهة، وإنشاء تحصينات كثيفة وزج القوات في معارك موضعية مرهقة. في جوهر الأمر، وجدت أوكرانيا نفسها في مواجهة معضلة إستراتيجية خطيرة منذ اللحظة التي أعلن فيها الرئيس بوتين تعبئة الاحتياطيات في أيلول 2022. وكان قرار روسيا بتعبئة الاحتياطيات بمثابة إشارة بحكم الأمر الواقع إلى قبولها للمنطق الاستراتيجي الجديد المتمثل في حرب استنزاف صناعية أطول، حيث ستتمتع روسيا بالعديد من المزايا، بما في ذلك احتياطي عمالة أكبر بكثير، وقدرة صناعية أكبر بكثير، وإنتاج محلي لمسافة الأسلحة، ومركبات مدرعة وقذائف، وموقع صناعي خارج نطاق الهجمات الأوكرانية المنهجية، والاستقلال الاستراتيجي. ولكن على المدى الأقصر، استفادت أوكرانيا من فترة قصيرة من المبادرة على الأرض، لكن هذه الفرصة فسدت بسبب الهجوم الفاشل في الصيف على الدفاعات الروسية في الجنوب، وانتهت المرحلة الثانية من الحرب بتقدم القوات المسلحة الفيدرالية على ساحل آزوف. وبذلك وصلت الأمور إلى المرحلة الثالثة التي تتميز بثلاثة شروط مهمة:
- الزيادة المطردة في القوة القتالية الروسية بفضل الاستثمارات التي تمت خلال العام السابق.
- استنفاد المبادرة الأوكرانية على الأرض والتفكيك الذاتي المتزايد لموارد وحدة الاستخبارات المالية.
- الإرهاق الاستراتيجي داخل الناتو.
كان أحد العناصر الأساسية لتوسيع القدرات الروسية هو التحسين النوعي والكمي لأنظمة الدفاع المواجهة الجديدة. فقد أطلقت روسيا بنجاح إنتاجاً ضخماً للطائرة بدون طيار، وهناك مصنع إضافي قيد الإنشاء. علاوة على ذلك، زاد إنتاج ذخيرة “لانسيت” المتسكعة بشكل كبير، ويتم الآن استخدام العديد من المتغيرات المحسنة، مع توجيه فائق ومدى فعال وقدرات الاحتشاد. كما زاد الإنتاج الروسي من طائرات ” اف بي في” بدون طيار بشكل كبير. تُظهر كل هذه العناصر قدرة الجيش الروسي المتزايدة على إيصال المتفجرات بأعداد أكبر وبدقة أكبر إلى أفراد ومعدات ومنشآت القوات المسلحة الفيدرالية. وفي الوقت نفسه، على الأرض، يستمر إنتاج الدبابات في الزيادة، ويبدو أن العقوبات ليس لها تأثير يذكر على توافر المدرعات الروسية. فعلى عكس التوقعات السابقة بأن روسيا ستبدأ في التخلص من المحصلة النهائية وإخراج الدبابات الأقدم والأقدم من مخازنها، تستخدم القوات الروسية في أوكرانيا دبابات حديثة بأعداد كبيرة في ميدان المعركة مثل “تي90”.
أمريكا والطريق المسدود
في المقلب الآخر، وصلت الإستراتيجية الأمريكية برمتها في أوكرانيا إلى طريق مسدود، إذ كان منطق الحرب بالوكالة يرتكز على افتراض فارق التكلفة، والذي بموجبه يمكن للولايات المتحدة أن تخنق روسيا مقابل أجر زهيد، وتزود أوكرانيا من مخزوناتها الفائضة بينما تخنق الاقتصاد الروسي بالعقوبات. كانت النتيجة أن العقوبات فشلت في شل روسيا، وأنهت النهج الأميركي على الأرض بالفشل. وبالمثل فشل الهجوم المضاد الأوكراني فشلاً ذريعاً، ويتعين على القوات البرية الأوكرانية المنهكة الآن أن تشن دفاعاً استراتيجياً كاملاً ضد القوة المتنامية للقوات الروسية، وعلى هذا فإن المعضلة الإستراتيجية الأساسية التي يواجهها الغرب تتلخص في كيفية الهروب من المأزق الاستراتيجي.
وبالتالي، في مواجهة الاستثمار الروسي الضخم في الإنتاج الدفاعي والزيادة الكبيرة في القدرات الروسية التي ستتبع ذلك، فمن غير الواضح كيف يمكن للولايات المتحدة المضي قدماً. أحد الاحتمالات هو الخيار “الشامل”، والذي يتطلب إعادة الهيكلة الصناعية والتعبئة الاقتصادية بحكم الأمر الواقع، ولكن من غير الواضح كيف يمكن تحقيق هذه الغاية في ضوء الحالة المزرية للقاعدة الصناعية الغربية وأموالها.
وبحسب المراقبين، هناك دلائل واضحة على أن إخراج صناعة الأسلحة الغربية من حالتها المجمدة سيكون مكلفاً للغاية وصعباً من الناحية اللوجستية، حيث تظهر العقود الجديدة تكاليف باهظة. على سبيل المثال، كان الطلب الأخير من شركة تصنيع الاسلحة” رينميتال” بقيمة 3500 دولار للقذيفة الواحدة – وهي زيادة مذهلة بالنظر إلى أنه في عام 2021 كان الجيش الأمريكي قادراً على شراء الإمدادات بسعر 820 دولاراً فقط للقذيفة. وعليه، ليس من المستغرب أن يشكو رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي من أن ارتفاع الأسعار يعيق جهود التخزين. وهناك خيار يتلخص في “تجميد” الصراع من خلال دفع أوكرانيا إلى التفاوض، وقد تمت بالفعل مناقشة هذا الخيار علناً من قبل المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، وقد لاقى استقبالاً متبايناً. وبشكل عام، يبدو هذا الخيار غير مرجح، حيث تم تأجيل فرص التفاوض على إنهاء الصراع مراراً وتكراراً. ومن وجهة النظر الروسية، اختار الغرب عمداً تصعيد الصراع ويرغب الآن في الانسحاب بعد أن ردت روسيا بالتعبئة، وبدأت الاستثمارات العسكرية الروسية تؤتي ثمارها، وأصبح لدى الجيش الروسي إمكانية حقيقية للمغادرة مع دونباس وأكثر من ذلك، بينما يشكل تعنت أوكرانيا قدراً أعظم من القلق والانزعاج، حيث يبدو أنها عازمة على التضحية بالمزيد من الشجعان في محاولة لإطالة قبضة كييف على أراض لا يمكن الحفاظ عليها إلى أجل غير مسمى.
في جوهر الأمر، أمام الولايات المتحدة وأتباعها الأوروبيين أربعة خيارات أحلاها مر:
- المشاركة في التعبئة الاقتصادية لزيادة شحنات المعدات إلى أوكرانيا بشكل كبير.
- الاستمرار في دعم أوكرانيا بالقليل ومشاهدتها وهي تعاني من هزيمة تدريجية وبطيئة.
- إنهاء الدعم لأوكرانيا ورؤيتها تعاني من هزيمة أسرع وأشمل. .
- محاولة تجميد الصراع من خلال المفاوضات.
وهذه صيغة كلاسيكية للشلل الاستراتيجي، والنتيجة الأكثر ترجيحاً هي أن تعود الولايات المتحدة إلى مسارها الحالي المتمثل في دعم أوكرانيا بالمراوغات اعتماداً على الحدود المالية.
لقد أظهرت أحداث الصيف أن القوات الأوكرانية لا تستطيع مهاجمة المواقع الروسية الراسخة بنجاح، فالأحداث التي وقعت في أفديفكا وأماكن أخرى تجعل من الممكن الآن التحقق مما إذا كان بإمكانها الدفاع عن مواقعها في دونباس في مواجهة القوة المتنامية للقوات الروسي، وإذا فشلت القوات الأوكرانية في هذا الاختبار، فسيكون الوقت قد حان للفرار أو الاستسلام أو الموت، وهكذا تجري الأمور عندما يأتي وقت الحساب.