الشاعر اليمني صلاح الدكاك.. قصدت عاصمة الروح بحثاً عن ضمادة وبلسم
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
لم يكن توقيعه لديوانيه الشعريين”ألف ليلى وليلى” و”هذه الأبجدية أمي” في صالة ألف نون بدمشق مؤخراً بالحدث العادي بالنسبة للشاعر اليمني صلاح الدكاك، وهو الذي كان يتمنى أن يحدث ذلك منذ زمن بعيد والمؤمن بمقولة عالم الآثار الفرنسي شارل فيرلو: “لكل إنسان بَلَدان: بلده الأصلي، وسورية” وهو القائل “ضعوا ورقاً أبيض قرب رأسي إن متُّ علَّ سكون الضريح يساعدني فأدوّنما فاتني من كلامْ ورشّوا ضريحي بالحبر.. إن لم يكن مرةً كل يومٍ إذن فليكن مرةً كل عامْ..ولدت لأكتب.. لكنه الموت يسدل في رئتي -مذ بدأتُ- ستار الختامْ”.
- لماذا اخترتَ دمشق لتشهد على ولادة توأمك الشعري؟
لأن دمشق عاصمة الأبجدية الأولى، وقد كانت ومازالت عاصمة الفكر والأدب، لذلك أردتُ التعريف بنفسي وبالديوانين من خلالها لأنها ستكون بوابتي للقارئ العربي، وكذلك لأنها عاصمة الروح بالنسبة لي، وسأقول ما أكرره دوماً:”لو أن الإنسان يولد مرتين لاخترتُ أن تكون ولادتي الثانية في سورية، فهذا البلد يعيش في داخلي منذ صباي، وقد عرفته جيداً من خلال القائد حافظ الأسد وشخصيات سورية مبدعة كمحمد الماغوط ونزار قباني وأدونيس ودريد لحام، وغيرهم من المبدعين، ولطالما حلمتُ أن تكون دمشق معمدانيتي في الشعر كما عمدتْ شعراء آخرين، وها هو حلمي تحقق من خلال طباعة الديوانين في دار نينوى ومن ثم توقيعهما في صالة ألف نون، وكنتُ سعيداً جداً بكل من حضر وكان حريصاً على اقتنائهما على الرغم من كل الظروف الصعبة التي تمر بها سورية.
- حدّثنا عن هذين الديوانين وماذا يحملان في طياتهما؟
الديوانان يجمعان تجربتي العاطفية والسياسة والثورية والصوفية، وقد حاولتُ أن أقدم بانوراما واسعة من خلالهما حول تجربتي في كتابة الشعر، وهي تجربة قديمة ظلّت حبيسة المخطوطات ولم تر النور إلا في دمشق، وهذان الديوانان أول ديوانين لي، وأتمنى أن أكون قد وُفِّقتُ في تقديم صورة بانورامية عن أدبي وشعري، وأنا أراهن أن دمشق هي التي ستقدّم هذه الأعمال للقارئ العربي وستمنحها أجنحة للطيران في الفضاء،وأشير إلى أن ديواني”الأبجدية أمي” تحدثتُ فيه عن أمي المتوفاة وشوقي لها، ومما جاء فيه: “إن القصيدة أمي وهي ترضعني خمر النبوءة طفلاً، يافعاً، رجلاً،أو أن أمي أوصت بي إذ ارتحلت: يا حور عبقر حِلّي حيثما ارتحلا” أما في ديواني الثاني”ألف ليلى وليلى” فتحدثتُ فيه عن فلسطين وعن ليلى خالد المناضلة الفلسطينية والنموذج الحي للمرأة العربية المناضلة، ومما كتبت فيه: “ليلى والأحرار بكل العالم قيسٌ..والثورات قصائدْ..تتبتّل عينيك الواسعتين كدمعة حيفا..الدامعتين كمفتاح العودة..والمشرقتين كرشّاش فدائيّ عائد.. ليلى..لا ليلى إلا أنت”.
- تكتب الشعر في زمن يوصف بأنه ليس زمن الشعر، والبعض يبشر بموته وموت الشاعر.
كتبتُ الشعر وسأظل أكتبه، ووحدها دمشق لا تزال تؤمن أن الشاعر لا يزال شامان العصر، وأن الشعر ماء العين وملح الخبز ودم القلب، وإنه باقٍ ما بقي على سطح الكوكب إنسانٌ يحب ويمقت، يأمل ويتألّم، يلتقي ويفارق، يغني ويبكي، يفرح ويغتم، وكان الجمهور الدمشقي الذي حضر لتوقيع الديوان واستمع لقصائدي التي ألقيتها أمامه مصدر تفاؤل وأمل بالنسبة لي بأنه ما يزال حتى اليوم وسط الخراب العربي جمهور يفسح جزءاً ثميناً من وقته ليحضر توقيع ديوان شعر في زمن بات فيه الشعراء باعة جوالين يجوبون الحارات والأزقة بحثاً عن جمهور، وأوفرهم حظاً هم من يراودون الجمهور من خلف فاترينات الحداثة البرّاقة في المول الاستهلاكي الكبير “السوشيال ميديا” بمختلف تطبيقاته، أما أنا فلا من هؤلاء ولا من أولئك، أنا شاعرٌ أتى من قلب العاصفة وردم الدور خلف ضلوع وصايا الأشلاء وعلى ظهر صليب امرؤ القيس، قاصداً عاصمة الروح دمشق، باحثاً عن ضمادة وبلسم، ويا لها من مفارقة أن يلوذ الجرح بالجرح، ويا له من سخاء أن يجد المرء ضالته فيها وهي المثخنة حتى الشغاف من نصال الأخوة والأعداء.
- تقول إن تجربتك في كتابة الشعر ليست حديثة،فكيف تفسر هذه الولادة المتأخرة للديوانين؟
لم أطبع حتى الآن سوى ديوان “ألف ليلى وليلى” و”وهذه الأبجدية أمي” وأنا أشبّه تجربتي بامرأة حملت في مراهقتها وولدت في الخمسين وجاءت ولادة متأخرة، والسبب الأساس في تأخري في طباعة ما أكتبه من شعر وأنا الذي أنتمي لجيل التسعينيات الشعري في اليمن أنني لم أجد دار نشر تستوعب ما أكتبه في ظل السقوف العربية الخفيضة فيما يخص التعبير، وأنا سقف كتابتي عالٍ إلى درجة تصل أحياناً إلى ما هو صادم، خاصة فيما يتعلّق بالتابوهات، وكنتُ أعتقد أنني لن أجد السقف الذي لن أنصب فيه قامتي كاملة، لكن دمشق استوعبت وتفهمت كتاباتي، لذلك يُحسَب لها ولادة توأمي الشعري.
- باعتبارك تنتمي لجيل التسعينيات فما الذي يميز هذا الجيل؟ وهل أنت شاعر تغرد خارج السرب؟
بدأتُ الكتابة في الثمانينيات، وبلغة التصنيف أصنّف في المشهد الشعري اليمني ضمن جيل التسعينيات، لكنني تأخرتُ في الطباعة.. وبالعموم أنا أرفض تصنيف الشعراء زمنياً انطلاقاً من إيماني أن التصنيف يجب أن يكون حسب التميز، وعلى الرغم من قناعتي أنني لا أغرد خارج السرب وأتمنى أن أفعل ذلك، لكن يُقال دوماً أن في شعري خروجاً عن المألوف والسائد، فأنا أحلّق خارج التابوهات العربية، وإن طال مقص الرقابة معظم ما أكتبه.
- هل يعنيك الاشتغال على الشكل الفني للقصيدة التي تكتبها؟ وهل تقدّم شكلاً فنياً مختلفاً عن الآخرين؟
الانجرار لإغراء تقديم شكل مختلف بشكل مقصود من قبل الشاعر نوع من التكلف، فالأهم في مفهوم صنعة الشعر أن يفارق الشاعر لغة الأقدمين وينجز خطاباً وجملة جديدة، وهذا لا يحصل في ديوانٍ واحد وإنما مع الاستمرارية، ولأنني أردد مع ناظم حكمت: “أجمل القصائد تلك التي لم نكتبها بعد، وأجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد” أرى أن سقف التجربة مفتوح، والتجريب قائم وحتميّ لتحقيق شكل ولغة مغايرة، لكنها ليست مفارقة للمناخ العربي المألوف،فأنا أرفض أن يطلّ الشاعر على القارئ من زاوية غريبة عبر الألغاز والإغراق في الرمز.
- وماذا عن اللغة؟ وكيف تتعامل معها في كتاباتك؟
اللغة وسيلة يتخذها الشاعر ليعبّر من خلالها عما يريد، وهي ظاهرياً وفي ذاتهاً جافة، وما يمنحها روحاً وبعداً ودلالات جوانيّة الشاعر، واللغة تكون مطواعة بقدر صدق إحساسه، وهي وإن حلّقت في الفضاء إلا أن جذورها يجب أن تحفر عميقاً.
- ماذا عن أحداث اليمن؟ وكيف استطعت أن تعبّر عنها بشعرك؟
سنوات حرب اليمن ضاعفت أوجاع اليمني المثخن بالآمال، وقد حضرت الأحداث وسحبت نفسها على قصائدي في ديوان لي قيد الطباعة يحمل اسم”زمن بخس”.
- أعلنتَ في حفل توقيع ديوانيك عن ديوان جديد قيد الطباعة، فماذا عنه وقد حمل عنوان “أبجدية الحرير”؟
الديوان مكرّس للمشهد السوري منذ الحرب على سورية عام ٢٠١١ حتى هذه اللحظة، وهو عبارة عن قصائد سورية دمشقية بامتياز، وهو بمنزلة وفاء لنفسي وللقضية السورية لأن سورية ليست ملكاً السوريين فقط، بل هي ملك العرب جميعاً، والديوان يضم كل ما كتبتُه عن سورية وبطولات الجيش السوري فأنا لم أكن متابعاً لما يحدث في سورية أثناء الحرب فحسب، بل عشت الأحداث كما لو أن المعارك كانت تدور على باب بيتي وتهدد حياتي شخصياً، ومما كتبتُ فيه: “والشامُ لولا أنت، أضيقُ من زقاقٍ للمُعنَّى بالشآمِ، أنا المُعنَّى بالشآمِ، بباب تُوما بالمآذن والكنائسِ بالحمام وبالهديلِ، برجالها والشعب النبيلِ، وبأمسها المذبوح في الطرقات والجدران، بالحلم المشرد في مهب الريح، بالوقت السخي وبالبخيلِ، قولي الهوى أو لا تقولي، وتفلسفي ماشئت عن عبث الصبابة والغرام المستحيلِ، إني أحب دمشق في عينيك دافئةً ونابضةً وذابحة الذُّبولِ.
- كيف اكتشفتَ مهارتك في صوغ الحروف شعراً؟
كنتُ طفلاً حين زارني الشعر للمرة الأولى قبل ربع قرن، ولم أكن أملك اسماً لهذا الزائر ولا تفسيراً للرغبة التي اندلعت في عروقي بزيارته، وقد خفتُ كثيراً وفرحت كثيراً وأنا أشاهد أناملي تنزف حروفاً لا تشبه ما يدوّنه التلاميذ في كراسة الإنشاء، إلى أن عرفتُ أن الشعر لحظة حرية وانعتاق وركض لا تعوقها السروج، في غابة الأسئلة الإنسانية التي لا تجيب عليها الحواسيب وروبوتات السياسة والسوق.
- ماذا عن واقع الشاعر اليمني اليوم؟
الشاعر في اليمن لا يصدر أعماله في كتاب مطبوع بشغف الإنصات لرجع صدى النقد أو التقاطع مع ذائقة المتلقي، إنه ببساطة لا يبحث عن ناقد ولا عن قارئ بل عن فاعل خير يشتري نقداً بسعر تشجيعي إصداره الشعري.
- ما تقييمك لما تكتبه؟
كل ما أنتجه من شعر هو أثير بالنسبة لي، مع تأكيدي على أن الشاعر في كل مرحلة لا بد أن يخضع ما يكتبه لتطوّر فكري، وبالتالي فإن إحراق المراحل قائم، ومن ديوان إلى ديوان لا بد للشاعر أن يعيش تحولات ويحدث فارقاً حتمياً، وأعتقد أن القارئ هو الذي يلاحظ هذه الفروق.
- ماذا تقول اليوم في ظل ما يحدث في وطننا العربي من أحداث مؤلمة؟
كان جدي امرؤ القيس أول من وقف وبكى، وها أنا اليوم أقف مكانه وأبكي في لحظة عربية جديدة ما تزال عامرة بالأطلال ورسوم الديار ورحيل الأحبّة ولم يتغير شيء منذ ذلك الزمن الغابر، وما زلنا ننكف الحنظل حتى اللحظة، وما زال واقعنا العربي من الماء إلى الماء موضوعاً للبكاء والرثاء، وأختم بالقول: لي بلدان وعفوَهما إن أكُن ثنَّيتُ في العددِ، أنا إن شأَّمتُ في يمنٍ، خافقي أرسى ولم يحدِ، وطني هذا وذا وطني، بلدي هذا وذا بلدي”.
يُذكر أن الشاعر صلاح الدكاك من مواليد 1973 تعز، بكالوريوس آداب اللغة العربية، عمل في الصحافة اليمنية محرراً في “الثقافية”1999الصادرة عن مؤسسة الجمهورية للصحافة، تعز، ورئيساً لقسم التحقيقات فيها ومشرفاً عليها عندما تحولت لملحق 2005 ومديراً لإدارة التحقيقات الصحفية في “الجمهورية” 2005ورئيس تحرير صحيفة “لا” وهو عضو نقابة الصحفيين اليمنيين ونقابة الصحفيين العرب واتحاد الصحفيين الدوليين منذ العام 2003.