شيءٌ ما يلوح في الأفق.. البشرية في خطر
هيفاء علي
حذّر عدد من المعلّقين الجادين، ومن بينهم البروفيسور الأميركي فيكتور هانسون، البشرية وطلب منها الاستعداد لما ينتظرها في عام 2024، الذي عدّه نذيرَ شؤمٍ يظلم المستقبل، بينما تساءل الدبلوماسي البريطاني السابق، الستر كروك، عمّا إذا كان هذا البرفيسور يبالغ في تشاؤمه، مجيباً على وجه السرعة بأنه ربما يكون محقّاً، وشارحاً الأسباب التي تدفع إلى هذا التشاؤم.
وأوضح كروك في البداية أن الأميركيين والأوروبيين أصبحوا الآن في مزاج سيّئ، مع اختفاء المناقشات الهادئة والعقلانية، ليحل محلها الصراخ والعاطفة والاغتراب، مضيفاً: إن هناك شيئاً خطيراً يلوح في الأفق، حيث غرق الغرب تحت أمواج “ثورته الثقافية” ليحل محلها تسلسل هرمي ثقافي يقلب ويعكس الأنموذج المجتمعي المستعد لقهر الجميع، ومتسائلاً لماذا أظهر المجتمع الغربي أنه سهل الانقياد، وقليل التفكير في مواجهة تآكل أخلاقياته الحضارية؟ ليؤكد أنه لا توجد إجابة بسيطة لهذا اللغز، لكن معظمهم ببساطة لا يرون ذلك، ولا يمكنهم الاعتراف بأن هدف الثورة هو أن هؤلاء الأفراد الأثرياء من الطبقات الوسطى هم على وجه التحديد (وليس النخب) الذين تسعى الثورة الثقافية إلى إزاحتهم ومعاقبتهم كتعويض عن التمييز التاريخي وعنصريته.
ولفت كروك إلى أن هناك ثورة مضادة ناشئة جارية، حيث يسعى جزء من الناخبين إلى إعادة تثبيت المبادئ الحضارية والميتافيزيقية التي سمحت للأمة بالبقاء على قيد الحياة عدة قرون، وهم ليسوا مستعدّين للتخلي عن هذه القيم، ولا لتحمّل “ذنبهم” من خلال الخضوع لمطالب التعويض، والنتيجة واضحة وهي أن حجم المشكلة وتعقيدها (وقسوتها) مستمر في التزايد، مع تصاعد الغضب.
فعلى أحد المستويات، يعاني الرئيس الأمريكي جو بايدن من الشيخوخة، ويشعر “المسؤولون الدائمون” بالرعب: “لقد غرسوا وتداً في قلب ترامب، لكنهم يخشون أن يخرج الوتد في أي لحظة، وإذا فاز ترامب، فسيترتب على ذلك الثأر. وعلى مستوى “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” الحالي بايدن جعل المسؤولين الأمريكيين يرتعدون، إذ يمكن لبايدن أن يعطي الأولوية لولائه لـ”إسرائيل” على فوز الديمقراطيين في انتخابات عام 2024، وهو يخسر الدعم الداخلي.
في السياق، يقول كروك نقلاً عن هانسون: إن الديمقراطيين يشعرون بأن ترامب أصبح الآن الشخصية الأكثر روعة، وإن غضبه له ما يبرّره بسبب الظلم الذي تعرّض له، وبالتالي تتحوّل انتخابات 2024 إلى فراغ أسود. وعلى مستوى آخر، يوضح كروك أن التنوّع وسياسات الهوية للثوريين، أدّيا إلى الأولوية المطلقة للأيديولوجية على الحكم العملي أو حتى المنطق السليم، ولم ينجح هذا التحول الثقافي في تحسين حياة الأغلبية، بل على العكس من ذلك تسبّب في خلل في النظام وباتت الإنتروبيا “القصور الحراري” هي السائدة.
واستكمل الجانب الثقافي بـ”انتقال” ثوري من الاقتصاد الحقيقي -المصدر الرئيسي لتشغيل “البائسين”- إلى اقتصاد جديد عالي التقنية وأخضر وقائم على الذكاء الاصطناعي، من أجل توفير أنموذج اقتصادي قائم على التنوّع والعدالة الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، أُنزل “البائسون” إلى مرتبة الغرباء اقتصادياً، وتتطلب هذه التحوّلات التراكمية طباعة أموال هائلة. وكان كل شيء على ما يرام عندما كان من الممكن تمويل المشروع بمعدلات فائدة صفر، ولكن التضخم وأسعار الفائدة المرتفعة للغاية، حالا دون ذلك وهذا بالضبط ما حدث.
يتابع كروك الشرح، بالإشارة إلى أنه اليوم يهدّد الانفجار الهائل للديون الغربية لتمويل “التحوّلات” بجرّ “الثورة” برمّتها إلى الأزمة المالية والركود، وأن الأزمة الناشئة عن التضخم المتسارع وانهيار مستويات المعيشة، تعمل على تخمير مزيج خطير من خيبة الأمل الواسعة النطاق. وفي هذا الخليط الهائج، حقن الثوار معارضتهم الأيديولوجية للحدود الوطنية وتبني نوع من الباب المفتوح للهجرة، حيث لا تزال حدود الولايات المتحدة مفتوحة، فقد دخلها 9 ملايين مهاجر منذ ولاية بايدن في منصبه، ومن المتوقع أن يدخل 6 ملايين آخرون إلى الولايات المتحدة بحلول انتخابات عام 2024، كما أن حدود البحر الأبيض المتوسط مفتوحة أيضاً.
وبالتالي، فإن هذا التدفّق من المهاجرين، يمثل برميل بارود من المؤكد أن ينفجر في أي وقت، على غرار ما حدث في دبلن (وفي باريس الصيف الماضي) وسيستمر في الحدوث مراراً وتكراراً، وسوف يتم تدمير الهياكل السياسية للاتحاد الأوروبي وأوروبا. وفي ألمانيا، أصبح العرق الألماني الآن أقلية بين الأقليات. والسؤال الكبير هنا: كيف يمكن للكتلة العالمية المتعدّدة الأقطاب أن تدير الغرب الذي يتجه نحو الانهيار الأخلاقي والسياسي وربما المالي؟ ومن المرجّح أن تستمر الولايات المتحدة في مواجهة الصين، فالصين حالياً هي “الشيء الوحيد الموجود” في واشنطن، وأولويتها هي قدرتها على الطرد المركزي على السياسات الاستقطابية، ولكن هل ستنفّذ الولايات المتحدة، أو تستطيع، تنفيذ تهديداتها؟ على الأغلب لا.
كروك رأى أن المناقشة الأخرى (التي تقتصر إلى حد كبير على دوائر المحافظين الجدد) هي “كيفية إضعاف روسيا في واقع ما بعد أوكرانيا؟”، لافتاً إلى أن روسيا حققت انتصاراً ساحقاً في أوكرانيا، ومن المرجّح أن يجد المحافظون الجدد قدراً ضئيلاً من الجاذبية بالنسبة للمرحلة الثانية في أوكرانيا. ولكن الآن تواجه روسيا مشكلة مع أوروبا ذات الطموحات “الجيوسياسية” المستمرة وغير الواقعية. وبعيداً عن الحرب، توفّر مسودة المعاهدات التي اقترحتها روسيا في كانون الأول 2021 الوسيلة السلمية الوحيدة لإيجاد تسوية مؤقتة بين هارتلاند وريملاند “قلب العالم والهلال الداخلي”.
ولكن تساءل كروك، في الختام: هل سيكون هناك شخص عاقل في واشنطن للردّ على الهاتف عندما يحين الوقت؟.
ربّما يكون هذا هو السؤال الكبير الذي ينبغي على الساسة الأمريكيين طرحه، لأن المساحة الممنوحة للمناورة أمامهم باتت ضيّقة بما فيه الكفاية، وليس هناك متّسع من الوقت للتفكير، فالعالم يتغيّر باتجاه آخر، وهناك قوى صاعدة لا بدّ من التعامل معها، وإلا فإن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، سيجد نفسه خارج هذا العالم الجديد.