مجلة البعث الأسبوعية

كوليت خوري.. دمشق بيتي الكبير

البعث الأسبوعية ـ أمينة عباس

أطلقوا عليها لقب “فراسوازساغان العرب”، أمّا سعيد عقل فقال عنها: “امرأة عظيمة، روائية كبيرة، وفي أدبها تطلّ المرأة طاغية وجميلة، هي السّيدة المثقفة والمطّلعة على أدب الغرب وأدب وكتّاب العرب المشهورين، لكنها لم تتأثّر بأحد من عظماء التّاريخ، وبقي أدبها فيه نضارة، وهذا مهم جداً أن تكون في خط العظماء وتبقى أنت أنت.. وكوليت في خط العظماء، وبقيت كوليت”.. في حين كتب الشّاعر نزار قباني عنها: “هل صادفك أن تعرفت إلى امرأة هي مدينة؟ أنا متعلّق بكوليت لأنّ كوليت تشبه دمشق.. لا تستغرب، كوليت بالنّسبة إليّ هي دمشق”، وحين كان من المقرر تجسيد روايتها “أيّام معه” سينمائياً في مصر سألوا الفنّانة فاتن حمامة التي اختيرت بطلةً للفيلم: “ما رأيك في دمشق؟”، قالت: “أنا أرى دمشق من خلال عيون كوليت خوري”.. أمّا خوري فقد كتبت وأنشدت: “أنا الشّام.. تدفاقُ بردى.. سندسُ الغوطة.. شذى الورد.. أنا اللحاظُ الشاميةُ.. نبعُ الهوى.. أنا السّيفُ الدّمشقي أنا المجد..أنا الأميرة المكللة بالغار رغمَ لهاثِ الحاقدين الحاسدين”.

دمشقية الهوى والرّوح

تؤكّد كوليت خوري أنّ كلّ ما كتبته كانت أساسه دمشق باعتبارها دمشقية الهوى والرّوح، واصفةً إيّاها بأنّها “البلد الوحيد في العالم الذي يدمشق كلّ من يزوره باعتبارها الاسم الذي يستعمل كفعل، ودمشق هي التّنوير والحق وبلد الحضارة والأبجدية”، وتصف خوري علاقتها بدمشق فتقول: “في حياتي ما اشتقت إلّا إلى دمشق، وقصّتي ودمشق قصّة قديمة منسية، فأنا أشتاق إليها وأنا بعيدة عنها وأشتاق إليها أكثر وأكثر وأنا فيها.. ما استطعت يوماً أن أنسلخ عن بيئتي ومدينتي والوطن.. ما استطعت يوماً أن أغنّي إذا ارتفع في ذلك اليوم صراخ من بيت مجاور.. ما استطعت يوماً أن أضحك إذا كنت في ذلك اليوم قد رأيت وجهاً أعرفه يبكي.. أنا إنسانة مختلطة بذرّات هذه المدينة، ولطالما بكيت ورقصت معها، ولطالما اغتربت معها وفيها.. أنا جزء من هذه المدينة ومن هذا الوطن، وحين أكتب عن أي شيء في العالم، مهما كان بعيداً، يظلّ قلبي يزرع بين الأحرف والسطور آهاتي الشّخصية وابتساماتي التي هي انعكاسات لهذه المدينة”.

المضاعف عطره

في مجموعتها “دمشق بيتي الكبير” تحدّثت الخوري مطوّلاً عن دمشق مدينة الأحلام وعبق الياسمين وعن تاريخها وجبلها قاسيون وما يحاك لها وهي المدينة المقدسة بالنّسبة إليها، تقول: “مدينتي موجودة منذ ما قبل التاريخ وهناك أسماء كثيرة لها وأكثر من خمسة عشر شرحاً حول سبب تسميتها, وأنا أختار دائماً “ذو مسك” أي “المضاعف عطره”، وتبيّن في أحد حواراتها الإذاعية: “يقال إنّ دمشق هي دمّ الشّقيق عندما قتل قابيل هابيلاً، يعني أنّ دمشق منذ أيام آدم وحواء، إذاً هي لن ترحل، وكلّ من يأتي إليها ويقيم فيها يصبح من شعبها، هي تدمشق النّاس ولست مضطراً أن يكون عمر أجدادك خمسة آلاف سنة حتى تكون دمشقياً، يكفي أن تعيش فيها ثلاثين سنة وتتعمد بروحها، فهي مدينة لا تعرف التعصب”، وأشارت وإن كانت هي التي كتبت في هذه المجموعة أنّها ضد العودة إلى الماضي: “يهدمون الحاضر يجعلون ماضياً ثمّ يعرضونه في المتاحف، لو كنت أملك مالاً كثيراً لشيّدت مبنى وعرضت فيه المستقبل”، لكنّها وبعد قراءة أوراق فارس الخوري (جدّها) أعادت  النّظر بالماضي وقالت: “بعدما قرأت أوراق فارس الخوري وبحثت فيها، وجدت أنّ العودة إلى الماضي لا بدّ منها خصوصاً في التّاريخ، لأنّ التّاريخ يعيد نفسه، ولأنّ الحاضر هو تكرار للماضي، ولأنّ المستقبل يكون مبنياً على الحاضر الذي هو مبني على الماضي، وقلت ذات يوم: “لو يعود بي الزّمن إلى الوراء لكتبت الرّواية التّاريخية”.

ابنة سورية البكر

تؤمن كوليت خوري بأنّه “منذ بدء التّاريخ كانت العين على دمشق، ابنة سورية البكر، ودمشق مخوّلة للحديث باسم أمّها، وأنا دمشقية ومخوّلة بالحديث عنها، دمشق مستهدفة، دمشق أكثر بلد حضاري في العالم، أنا لا أمدح دمشق، أنا منها، دمشق مرّت عبرها كلّ الحضارات، دمشق كانت المنطقة الوحيدة في طريق الحرير التي تمرّ عليها كلّ الأديان والثّقافات، محاطة بجبال وفيها أنهر وخضير، وأيّ قافلة تمرّ تسكن في دمشق، وكلّ قافلة كانت تحمل معها حضارتها وعاداتها وتقاليدها، واستطاعت هذه المدينة أن تخلط كلّ هذه الحضارات وتعمل منها حضارة واحدة، وهي البلد الوحيد الذي إذا استخدم كفعل دلّ على التّنوير والحضارة، فعندما نقول تدمشق أو إنّ دمشق تُدمشق ساكنيها فهذا يعني أنّها تجعلهم حضاريين ومتنورين، والمعروف أنّها مدينة تحتها سبع مدن، وهذا دليل عراقة وحضارة طويلة جدّاً، وما جرى أن وضعت الدول الكبرى عينها على دمشق على اعتبار أن تغيير القيادة في دمشق سوف يسهّل عليهم تغييره في بلدان كثيرة وتغيير صورة المنطقة، وعندما بدأت الأحداث الدّموية في دمشق قالوا في وسائل الإعلام إنّها الحرب، لكنّي احتججت عليهم وقلت هذه ليست حرباً، هذا عدوان كوني على سورية، والحرب ليست كذلك”.

الوطن هو الأغلى

يقول الباحث عيسى فتوح: “يتجلّى الوطن في كتابات كوليت خوري ويمتزج بدلالاتها وتعابيرها فتتميز قصصها التي يسكنها الوطن وتشتد أحداثها أكثر نظراً للعواطف المشتعلة في قلب الأديبة تجاه الوطن كما جاء في قصة “عندما يحكي الوطن”، وما فيها من حب لجرحى الحرب ولمن يدافعون عن وطنهم حيث يظهر الوطن هو الأغلى والأهم في كلّ كتاباتها”، مبيّناً أنّ قصّة “دمشق يا بيتي الكبير” جاءت لترصد حكايات جميلة عن دمشق السّاكنة في قلب الأديبة وعن شوارعها المعطّرة باللهفة والشّوق، وعن الغوطتين وما فيهما من جمال وبهاء على الأرض، إضافةً إلى المأكولات الشّعبية التي تميّزت بها تلك المدينة وما فيها من أثر لبطولات قديمة ستبقى خالدة إلى الأزل”.

انتماء عضوي

ويبيّن الشّاعر والنّاقد رضوان هلال فلاحة أنّ فكرة موضوع المجموعة القصصية “دمشق بيتي الصغير” لخوري، تنمّ عن انتماء عضوي بين الأديبة كوليت خوري ودمشق أرضاً وهواء وموروثاً اجتماعياً أصيلاً شكلت لبنات تكوينه الحكائي بتماسك بنيوي فنّي وبمهارة الوصف لشخصيات نقلت بتضاريس وجوهها وحركات وسكنات أجسادها خبايا النفس وتطلعات الغد”.

امرأة معجونة بالإشراق

كان وما يزال منزلها في دمشق مفتوحاً يستقبل الأدباء العرب، وهي الشّاعرة والأديبة السّورية الدمشقية، حفيدة فارس الخوري رئيس وزراء سورية الأسبق، وأحد الآباء المؤسسين للدّولة السّورية الحديثة، كتبت الخوري بالفرنسية والعربية، وعملت بالصّحافة مع خالها حبيب كحالة في مجلّة “المضحك المبكي”، وعدّها النّقاد من أهمّ رائدات تحرّر المرأة في الوطن العربي ووصفوها بأنّها “امرأة معجونة بالإشراق والحب والأدب والشعر والموسيقى، تتقن فنّ الحياة كما تتقن فنّ الأدب والإبداع”، وتقديراً لتجربتها الأدبية المتميزة منحها مؤتمر الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب الذي أقيم في مدينة سرت الليبية جائزة القدس للعام 2009، وانتُخبت عضواً في مجلس الشّعب في عام 1990، وقد وثّقت أوراق فارس الخوري (1877–1962) ضمن كتاب صدر بأجزاء عدّة.